
"غرزة" قائد ثورة الجياع

بسيونى الوكيل
26 نوفمبر 2015بثيابه الرثة ووجهه الملون بعوادم السيارات وتراب الأرصفة وقف الطفل "غرزة" مع أصدقائه الخمسة أسفل كوبري أكتوبر بميدان عبد المنعم رياض يفكرون فيما سيأكلون، هل ستكون الوجبة هذه المرة مما يتسولونه من المارة أم من صناديق الفضلات المتواجدة أمام محال الأطعمة في منطقة وسط البلد.
غرزة الذي لا يعرف لماذا يحمل هذا الاسم الغريب ولا لماذا لم ينشأ في أسرة كباقي الأطفال واحد من ضمن 20 طفلًا هم إجمالي أطفال الشورع المتواجدين في منطقة ماسبيرو، يجمعهم رصيف الكورنيش في الليل، قبل أن يفرقهم النهار بحثًا عن لقمة العيش.
في ظهيرة هذا اليوم، وهو موعد استيقاظ غرزة، عبر لزملائه عن استيائه من تغير أحوالهم المعيشة التي أصبحت أكثر سوءًا بعد انتهاء مليونيات ثورة يناير قائلًا: "كانت أيام مية مية كنا واكلين شاربين نايمين ومعانا قرش نشتري اللي احنا عايزينه".
الواد "لوشا" زميل غرزة في الرصيف رد قائلًا: "ما تقلقش بكرة يجوا تاني هما أكيد مريحين شوية وهايرجعوا تاني (يقصد المتظاهرين)".
غرزة الذي لم يفهم من شعار الثورة المرفوع آنذاك "عيش حرية كرامة إنسانية " سوى الكلمة الأولى، ذكر صديقه ببعض حسنات التظاهرات وتوابعها، والتي كانت فرصة للحصول على الطعام بسهولة مما يعطف عليهم به المتظاهرون أو ما يتبقى من فضلات طعام هذه الحشود الممتدة من مجمع التحرير وحتى ميدان عبد المنعم رياض، ولكن الأمر يزداد سوءًا فالليالي باتت تمر والجوع يفتك بمعدة غرزة ليكسر المثل الشعبي القائل "محدش بيبات من غير عشا".
الأفكار الصدامية بدأت تجول في خاطره: هل يفترس أحد المارة ليحصل على ما في يده من أكياس فاكهة أو طعام؟ أو على ما في جيبه من أموال؟.. لكن كلما جاءته خاطرة، أدرك أنه بجسده النحيل وأعداد زملائه المحدودة ستجعل معركته محسومة بالخسارة.
وذات ليلة جلس غرزة يتحدث مع صديقه "بنسة" أسفل سلم كوبري أكتوبر، عن تفاصيل يومهما الذي تعرضا فيه للإهانة من صاحب محل الكشري الكائن بأحد شوارع وسط البلد بعد أن سئم مرورهما شبه اليومي لطلب كيس كشري.
مرت السنون وتغير الحال من سيء لأسوأ، ولم يعد غرزة الذي بلغ من العمر 25 عامًا يجد من يعطف عليه بكسرة خبز، حتى فضلات الطعام اختفت من أكوام القمامة بعد أن عم الفقر البلاد، وشحت أعمال الخير حتى في رمضان فلم تعد هناك مائدة رحمن واحدة.
غرزة الذي لم يكن يجد في كثير من الليالي من يؤنس وحشته من أطفال الشوارع بسبب أعدادهم المحدودة ورغبتهم في تغيير مواقع نومهم من ليلة لأخرى، لم يعد الآن يجد له موضعًا على الكورنيش ليبيت فيه بسبب كثرة زملائه الذين حملوا لقب "مشرد" أو "طفل شارع" وهو اللقب الذي سبقهم إليه وإن كان الأخير لم يعد ينطبق عليه لدخوله في مرحلة عمرية أخرى وهي "الشباب" لينحت لقبًا جديدًا للمشردين وهو "شباب الشوارع" الذين لا يختلفون عن أطفال الشوارع في شيء سوى في الطول والعرض.
حال ميدان عبد المنعم رياض ومنطقة كورنيش ماسبيرو لم تختلف كثيرًا عن معظم ميادين العاصمة وباقي المحافظات والمدن، فالمشردون الذين انضموا لأرصفة الشوارع إما لانهيار منازلهم وعدم توفير الدولة لهم مسكنًا بديلًا أو منحهم تعويضًا لبنائه أو لعجزهم عن سداد إيجار شققهم فطردهم أصحاب المساكن، فلم يرأف بحالهم إلا الأرصفة التي تتخلى عنهم أحيانًا أمام حملات الشرطة الباحثة عن مطلوبين أو مشتبه بهم، فلا تجد أسهل من الاشتباه في هؤلاء.
الوضع لم يعد كما كان فالتركيبة الديموغرافية نفسها تغيرت على الأرصفة التي صارت رائحة فضلات المقيمين فيها تزكم الأنوف، فلم يعد فقط قاطنوها من الأطفال أو الصبيان الذين فروا من عذابات أسرهم المفككة أو من وجدوا أنفسهم في الشوارع دون سبب يعرفوه.
الأرصفة الآن تعج بالشباب، بل والأسر بسبب الفقر الذي ضم إلى دائرته عشرات الآلاف من المصريين في ظل عجز خطط الحكومات والأنظمة التي تعاقبت على مصر بعد الثورة عن ملاحقة الزيادة السكانية، فضلًا عن دخولها في مشروعات "قومية فاشلة" عَجّلت بتدمير الاقتصاد، كمشروع توسعة قناة السويس والعاصمة الجديدة التي أهدرت فيها المليارات لتوصيل مرافق وبنية تحتية ثم عجزت الحكومة عن استكمال بنائها لنفاد السيولة.
عبدالله وأولاده الخمسة أسرة من ضمن عشرات الأسر التي قطنت الرصيف بعد أن انهار المنزل الذي كانت تقيم فيه وعجزهم عن الحصول على مسكن آخر سواء من المحافظة أو بإمكانياتها الشخصية.
وعلى الرغم من كون كل هؤلاء صاروا عبئًا على غرزة الذي كان يستمتع بالكورنيش وحده أو مع عدد محدود من أصدقائه، إلا أنهم صاروا مصدر قوة له، فلم يعد يجرؤ أحد المارة على أن يرفض لهم طلبًا ولو سألوه كل ما في جيبه مقابل أن ينجو بحياته من حشود جائعة يمكن أن تأكله حيًا، لكن ما في أيدي المارة وما تقدمه المطاعم القريبة لغرزة وأنصاره عن يد وهم صاغرون لا يمكن أن يسد جوع كل هذه الحشود التي اضطرت أن تهاجم بعض المحال والمطاعم أو تهبط على منطقة فتحاصرها وتخرج بما في ثلاجات منازلها من طعام.
ما في ثلاجات البيوت لم يعد يكفي هذه الآلاف فاضطروا إلى الهجوم على المخابز والمزارع التي انكمشت أمام الغزو الخرساني من المنازل والبيوت الجديدة، فلا يجدون حقلًا مثمرًا إلا أتوا عليه كالجراد، ولا شركة ومخزنًا للأغذية إلا وخرجوا بما فيه.
الأمن الآن يحاول السيطرة على هؤلاء لكن زمام الأمور قد فلت بسبب كثرة أعداد المشردين وانتشارهم في القرى والمدن والمحافظات، الأمور تتجه للأسوأ، أعمال سلب ونهب جماعي منظم دون ترتيب.
المؤسسات السيادية والعبيدية عجزت عن التوصل لحلول أو تفاوض مع الجياع الذين ثاروا على الجوع، لكونها تتعامل مع فئة ليس لديها إدراك لتصبح مقولة "إذا جاعت البطون غابت العقول" ولا شيء يحركها إلا ما يصدر عن بطونها من أصوات تصرخ بآلام الجوع.
مراقبون وصفوا الأمر بأنه "ثورة الجياع" التي طالما تم التحذير منها في كل العصور، فكانت الأنظمة في القديم تخشاها وتتخذ التدابير لمنع وقوعها، لكن مع تغير الأحوال ووصول أنظمة لا تخشى شيئًا فالخبراء والمراقبون وصفوها أيضا بأنها أقوى ثورة في تاريخ البلاد، لتفوقها على ما سبقها وإن اختلفت الأسباب في الأعداد والانتشار والتكتيك الذي عجزت الأجهزة الأمنية عن السيطرة عليه، لاعتقادها أن الحل دومًا "أمني"، بينما الواقع يؤكد في هذه المرة أنه "بطني".
سيناريو تخيلي له مؤشرات عديدة أتمنى ألا يحدث..