هُوليوود تَأْتِينا بِكِلابِها

هُوليوود تَأْتِينا بِكِلابِها

حورية عبيدة

حورية عبيدة

22 أكتوبر 2016

لَسْتُ بناقِدَةٍ سِنيمائيةٍ ولا أزْعُمُ؛ لكنْ أنْ تَأْتينا هوليوود حتى عُقرِ دارِنا بفيلمٍ يتناولُ مَأساة العِراق؛ فتجْعلُنا نَذْرفُ الدمْعات لا على حالِه؛ بل على كَونِنا مازلنا عَرباً! ويُمْطِرُه المُشاهدون بالتَّصْفيقِ الحادِ وقْتَ تنْهَمِرُ علينا أسْلحةُ الغربِ وكَراهيتُه!، وتُطْلَقُ عِباراتُ الاسْتحسانِ والإعْجابِ بمَكْرِ تُجَّار السِّلاح وهُم "يسْتغفلوننا" ليهربوه ويبيعوه للجيش الأمريكي وللطوائفِ؛ مُزْجياً نيرانَ التَناحُرِ بينها؛  ليُصَوَّبَ في النِّهاية لصُدورنا، وتَتَعالى في قاعات السينما الضَّحكات..(نضحك على أنفسِنا!.. لاحِظوا) وسْطَ دماءٍ حقيقةٍ تُسْفَكُ في الواقع -وعلى الشاشة الفِضِية- راحَ ضحيتُها حتى الآن أكثرُ مِنْ مليون عِراقيٍّ أو يزيدون،مُتناسين -ونحن في غَمْرَة دَهْشَة المُشاهَدة- دُموعَ أطفالٍ تَروي وطناً نَجَّستهُ أقدامُ الغربِ الحاقِدِ المُستعمِر، وشوارعَ تفترشُها الأحزانُ، وأجيالاً لم تَعدْ قادرةً على الحُلْم؛ يُسافرُ خيالُها ويَعودُ خالِي الوِفاضِ إلا مِنَ الكآبةِ والضَّجَر؟! .. فمَكْرُ هوليوود ولا رَيْبَ شَديدٌ.



بحَبكةٍ كوميديةٍ دراميةٍ؛ مُزجَتْ بالإثارةِ والرُّعْبِ والدَّهْشةِ؛ وبطريقةِ "الفلاش باك"؛ جاؤنا "كِلابُ الحَرْبِ" وهو الاسْمُ الذي أطْلَقه الفيلم على مَنْ أَتوا عِراقَنا؛ يَبيعونَه أسلحتَهم؛ ومكْرَهَم الدَّفين؛ ووقاحتَهم الخَبيئة غيرَ المَسْتورة؛ بالتهريبِ عن طريقِ "الأردن"، حاملينَ معهم رسائلَ هامَّةٍ لا يمكنُ أنْ نَغْفلَها ، كما فعلوا في أفغانسْتان التي باعُوها أسلحتهم بما  يُقَدَّرُ بـ 300 مليون دولار.

أُولَى رسائلِهم: أنَّ الأردن خاصِرةٌ ضَعيفةٌ يمكنُ اِخْتراقها؛ ليُفْعلَ بها ما فُعِلَ بأي دولةٍ عربيةٍ لمْ تَسِرْ على النَّهجِ الغَرْبي، ثانيها: أنْ يعيشَ المُشاهِدُ في حالةٍ منَ الغَفْلةِ التامَّةِ عن مأساةِ العِراقِ الحقيقيةِ والمُتَسَبِّبِ فيها؛ ويَمْكُثُ طَوالِ الفيلم مَشغولاً بذكاءِ "رُعاةِ البقر" في كيفيةِ تَهريبهمُ السِّلاح لأراضينا بشكلٍ غيرِ مَشْروعٍ، ثالثها: إِسْكاتُ الأصواتِ التي تعالتْ تتهمُ أمريكا بأنَّها اصْطَنعتِ الحروبَ على أراضينا إِنْفاذاً لمَصالح تُجَّارِ السِّلاحِ؛ مُعْلنةً أنَّ السلاح الذي وصَلَ ماهو إلا نِتاج عمليات تَهريبٍ؛ لمْ تَضطلِعْ بها الحكومةُ الأمْريكيةُ لا مِنْ قريبٍ ولا مِنْ بعيدٍ! ولَطالَما أنْكرَتْ هِي علاقتَها بشركاتِ تجارةِ الأسْلحةِ أو أنَّها جاءتْ تَلْبيةً لمآرِبِها، لكنَّ الفيلم يقعُ في خطأٍ -أحْسَبْهُ عنْ قَصدٍ؛ نَظراً لهامشِ الحُرِّية الكبيرِ التي يتمتعُ بها الغَرب- ساعةَ يؤكدُ على وثاقةِ العَلاقةِ بين الحكومة والتجار؛ لَحْظَةَ تأتي طائرة هليوكوبتر؛ تُنقذُ المُهربين عقْب اكتشافِ أمْرِهم، في رسالةٍ هوليوديةٍ مُفادها أنَّ كلَّ شيءٍ تمَّ "برعايةٍ ومُباركةٍ أمْريكيةٍ".

بطريقةٍ مُتعمَّدةٍ مَقصودةٍ؛ وفي غُضونِ الأحْداثِ؛ كلُّ اللقطاتِ "بالعراقِ والأُردنِ" يُصاحِبُها صَوتُ الأَذانِ؛ بمَغْزَى واضحٍ أنَّ الأرضَ التي تَصْدَحُ بـ "التكبير"؛ أرضُ إرهابٍ ومُهربِي السِّلاح العَشوائيين، وحين تدورُ الكاميرات في مُدنِها؛ إِذاها باهِتة يلفُها السَّوادُ والقاذوراتُ، والكآبةُ تَعْلو الوُجوهَ والنُّفوسَ، والعَربيُّ مُهَلْهلٌ هِنْدامُه، مُنَفِّرٌ بيتُهُ، بينما المُدُن الأمْريكية مُتَلألئِةٌ بَرَّاقَةٌ، يَسُودُها المَرَح والحُسْنُ، والأمريكيون تَشِي ثِيابُهمُ  دائماً بالأنَاقةِ، وبيوتُهم تَليقُ بالنظافةِ والرَّاحةِ، لتكْتملَ قناعاتُهم "الكامِنةُ في دَواخِلِهم" أنَّ كلَّ ماخَلا أمْريكا هَباءٌ، وأنَّهم وحْدَهم الأحَقُّ بالحياةِ.. وفي تعليقٍ لبعضِ المُخْتصين السينمائيين؛ أَشاروا إلى أنَّ مُخرِج العَمَلِ تَعمَّدَ استخدام كاميرا تصويرٍ مُتخلِفةٍ وعَتيقةٍ؛ لتبدو صُورةَ أوطانِنا مُذْرِيةً.. وتكتملُ الصورةُ حين تتعانَقُ أحداثُ الفيلم بأغْنياتٍ مُصاحِبةٍ؛ كُلها تُناهِضُ الحربِ وتدعوا للسَّلام؛ وكأنَّها رسالتُهم النبيلةُ لنا.. في تزويرٍ بَيّنٍ مَفْضوحٍ!

أولادنا -حتى ساعَة كتابةِ مقالي هذا- وعلى امْتدادِ عالمِنا العَربي؛ هُم رُوادُ قاعاتِ هذا الفيلم القَمِيء، يصَفِّقون له ولأبطالِهِ بأسْلحتِهم التي جُلبُوها لقتْلِنا، ليخرجوا بعدَ العَرضِ كارهينَ الأوطان والأهْل؛ والكآبةُ تلفُّهُم لتَدَنِّي مَكانَة بلادِهم؛ ووَدُوا ألوغادروا للغربِ "المُبْهِرِ"والمُنقِذ على طريقة "سبَيْدَر مان"و"السوبر مان"، ثم تأتي الطامَّةُ الكُبْرى منْ بعضِ نُقَّادِنا السينمائيين؛ حالَ اسْتقبالِهم الفيلمَ اسْتقبالاً حَسناً، مُعْتبرينهُ ضِمنَ أفلامِ الدراما: "الباعثةِ على الرَّاحةِ للهروبِ النَّاجِعِ مِنْ واقعٍ أليمٍ" على حَدِّ تعْبيرِهِم.. في ذاتِ الوقتِ الذي يثورُ فيه المُشاهِدُ الأمريكي؛ مُتهِماً إياهُ بإساءتِه للحُلمِ الأمريكي !!

غَاصَتْ رُوحي تحتَ ثِقَلِ ما أرى مِنْ كَمِّ الاستهزاءِ والاسْتفزازِ والسُّخرِيةِ بنا؛ لأُدْركَ أنَّا شعوبٌ غيرُ مَوهوبةٍ -بامتياز- في امتلاكِ الوَعي، ومَنْ حَازَهُ أدْرَكهُ التَّعبُ والسَّقمُ والذُّهولُ، وَيْكَاَنَّ أبْوابَ الجُنونِ باتَتْ مُشَرَّعةً أمامَه، فأنَّى لنا برياحِ النِّسيانِ لتَمْحو ذاكرةٍ مُؤلمةٍ؛ ألْبَسَها الغَربُ "العِمَّةَ" لينالَ أهْدافَهُ.