يمين.. يسار.. تمر هندي
محمد إبراهيم
29 مارس 2018
ما الفارق بين اليسار واليمين؟
في جملة الفروقات يظهر فرقا واضحا بين بحث اليمين عن مصلحة الفرد بطريقة مؤمنة بأن الطبقية أمر طبيعي يُحافظ على توازن المجتمع, وبحث اليسار عن مصلحة الجماعة في محاولة لطمس الطبقية أو تهميشها لأقصى درجة.
في عهد الملك لويس السادس عشر ملك فرنسا, وفي عام 1789 جلس النواب الممثلون لعامة الشعب على يسار الملك بينما جلس النواب الممثلون لرجال الدين وطبقة النبلاء على يمينه, ثم اعترض الفريق الأول على جملة التفاصيل المُسيِّرة للبلاد وأصروا على وضع دستور جديد يتضمن بين جنباته ما يُعبر عن الحرية والإخاء والمساواة, وتم وضع دستورا جديدا للبلاد بالفعل, بعدما أسقطوا سجن الباستيل, حتى وصل بهم الأمر لإسقاط الملكية لصالح إنشاء الجمهورية في سبتمبر 1792.
الحرية والإخاء والمساواة كانت هي المُقدمة لقوانين حقوق الإنسان والتي خرجت للنور بعد ذلك وتطورت مع الزمن, وكذلك اليسار تطوَّر وتغيَّر عبر الزمن, بين الشيوعية الراديكالية, وبين اليسار الديمقراطي, خلال طريق طويل من العقبات والإخفاقات والديكتاتوريات والاحتجاجات الشعبية العارمة.
لكن في نهاية الأمر سيظل الفارق واضحا بين اليمين واليسار في مسألة عن أي مصلحة تبحث, فلو كانت المصلحة الفرديَّة فاليمين يُناديك.. أما إن كانت المصلحة الجماعية بما يطمس الطبقية فاليسار مكانك.
***
أُثير مؤخرا نقاشا مُحتدما على خلفية حكم محكمة مصريِّة بمنع شركتي أوبر وكريم عن العمل في مصر, وتابعت ردود فعل بعض المنتمين لليسار المصري, وكان من الواضح أن هناك ثمة تباين بين من يبحث في ظل تلك الهوجة عن موقف يتناسب بشكلٍ ما مع كونه " يساريا " وبين من غفل عن فكرته التي يحملها في ظاهر القول وبنى موقفه على مصالحه الشخصيَّة, بل واستخدم في ذلك تعبيرات دالة على إيمانه بالطبقية, فمثلا هو يرى أن من المنطقي أن تبحث كل طبقة عن مصالحها, وأن (طبقته) بالتالي من الطبيعي أن تبحث عن مصلحتها التي يراها مع تلك الشركات.
هنا من اللافت أن المناقشة تدور بين طبقة بعينها, سواء كانوا ناقمين على الحكم أو مُنظرين عن حركة أوسع تحمل حلولا أكثر جذرية وتشمل حقوق الآخرين ومن بينهم أصحاب (التاكسيات البيضاء).
فكيف تقولَّب أغلب اليسار المصري بشكلٍ ما في تلك الطبقة التي تستخدم أوبر وتناقش أموره بحماسة شديدة وتعتبره أمر يتعلق بطبقتهم؟!
الأمر مثير للانتباه, بما أن هؤلاء الذين ينتمون لتيار يقف ضد الطبقيَّة بينما وُضعت حدود حول غالبيتهم في طبقة مُعينة, حيث معدل الاستهلاك والبحث عن الرفاهية في تلك الطبقة مُرتفع, وأوبر هو الوسيلة الأكثر استخداما عندهم بدلا من المواصلات الشعبية التي يستقلها غالبية الشعب, حتى أصبح موضوع مثل منع " أوبر " هو الأكثر جذبا لانتباههم لأن هذا الأمر يلمس "طبقتهم" بوضوح وبشكل لا شك فيه.
وقد يكون ذلك من ضمن جُملة أسباب حجمت انتشار الفكر اليساري في مصر, بالرغم من كونه مناسب لوضع الشعب الذي أغلبه يُمثل طبقات العمال والفلاحين ذوي الدخول الصغيرة, والذين يسهل استمالتهم تجاه سياسات تساوي بين الطبقات وتُعيد توزيع الثروة, وكأن هؤلاء الذين يُنظرون بتلك السياسات يعيشون في برج بعيد عن من يُنظرون لهم.
***
هل فقط اليسار الذي يعاني من تلك الإشكالية؟
إذا نظرت إلى المحافظين, وهم تيار يميني بطبيعة الحال, بيد أن بعض هؤلاء المنتمين للتيار المحافظ مع تغيرات الزمن وانفتاح العوالم أخذ في تغيير بعض جموده في منطقة الإيمان بالطبقية ليتساهل مع بعض أفكار طمسها, حتى أن بعض المتابعين أطلقوا لفظ "الإسلاميين اليساريين" على بعض هؤلاء الذين واكبوا الزمن ليشدوا أفكارهم ناحية اليسار, على سبيل المثال لا الحصر تبنيهم لسن قوانين تُحدد الحدي الأدنى والأعلى للأجور, وهو مبدأ يساري بامتياز.
لكنهم في نفس الوقت لم يتجاوزوا أفكارهم المحافظة تجاه اليسار بشكل كامل, خاصة في القضايا الاجتماعية. وأصبح بالتالي قولبة أفكارهم في قالب واضح ليس بالأمر الهيِّن.
وعلى عكسهم بعض المنتمين لتيار اليمين العلماني الرأسمالي والذين يغضوا الطرف أو يُشجعوا تدخل الدين في الأمور السياسية شريطة أن يكون تدخلا في صالح أفكارهم, ويُؤيدوا الدولة العسكرية إذا ما جاءت لتمنع خصومهم السياسيين من الوصول لسدة الحكم. بينما الإسلاميون الأكثر تشددا في مسائل مثل الديمقراطية والذين بنوا قواعدهم الفكرية على أنها فكرة كُفرية, يتباهون الآن بأصابعهم المُلونة بحبر الانتخابات الفسفوري, وبوقوفهم في طوابير الصناديق التي يُحدد من خلالها الناس من يحكم, وهو ما يُخالف معتقداتهم الثابتة والمعروفة.
وأصبح من الشائع الآن أن تجد هؤلاء الأكثر تشددا يناقشون بحماسٍ آخرين ينتمون لتيار إسلامي أكثر اعتدالا ليحاولون إقناعهم أن التصويت بالانتخابات واجب شرعا !
***
هل مثل ذلك الاختلاط الذي جعل طريقة استهلاك اليساريين لا تختلف عن البرجوزايين, وقلب الطاولة على الإسلاميين لتتغير أفكارهم بطرائق عدة, حتى أصبح من الصعب رسم دائرة مُحددة حول تيار بعينه, هل مثل هذا الاختلاط صار ظاهرة عالمية أم أن الأمر يقتصر على مصر؟
من الواضح أن التيارات السياسية والفكرية في العالم كله قد تغيرت حتى أصبحت التعريفات في الكتب مُختلفة بشكل جليّ عن واقع الأمور, لكن مازالت هناك سمات واضحة تُميز كل فصيل, بعكس الأمر في مصر حيث كل شيء أصبح كما يقول الناس .. سمك لبن تمر هندي.