احلموا يرحمكم الله

احلموا يرحمكم الله

كريم الشاذلى

كريم الشاذلى

12 يونيو 2017

 

كعادته كلما رآني أكتب، مط صاحبي شفتيه وأدار وجهة في الاتجاه الآخر..!


كان هذا قبل أن يقطع حبل تركيزي قائلاً: ألم تتعب من الكتابة عن الحلم، ألم تنظر حولك ملياً لتدرك أن حجم البؤس القابع في أفئدة الناس لم يترك لهم من براح التفاؤل والبهجة شيء؟!

 

صمت صاحبي بعدما أفرغ على سمعي شيئاً من ظلام روحه والذي يتشاركه مع كثر، ضربات الحياة العنيفة أصابت الناس بعدم الاتزان، حتى غدا المرء منا خائف أن يترك سفن تطلعاته وأحلامه لتبحر بعيداً، خشية أن تكسرها صخور الواقع القاسية، وصار الأسلم لنا أن نغلق الصدر على وجع من واقع مؤلم، وخوف مما هو منتظر!

 

وهذا لعمري موت أولي، يسبق موت الجسد ربما بسنوات طوال..

 

ذلك أن الحياة لم تكن في يوم من الأيام جنة أو بيئة مثالية فاضلة، لم يكللها أبداً العدل المطلق أو التام، في طياتها الكدر والحزن، وفي صندوق مفاجآتها الشيء الكثير، غير أنها مع كل هذا هي البديل الوحيد المتاح لنا!، فلا أحد منا يملك أن يعود لبطن أمه مرة ثانية، او يستبدل واقعه بواقع آخر، أو زمانه بزمان مختلف.

 

لكننا مطالبين أن نضرب في الأرض طولاً وعرضاً، ونحتال كي نوسع دائرة الخيارات، ونتلقى ضربات الزمان بشكل ناضج، قادر على التوقع والفهم والاستيعاب.

 

يحكى أن رجلاً وهب طفلاً فبكى، فلما سئل عما يبكيه، قال: ولد ليموت!

 

هنا صاحبنا لم ير في الحدث إلا وجه واحد، أن ما أتى سوف يذهب، وما وهبه له الله سوف يسترده ذات يوم، فقط هذا ما انتبه إليه الرجل وأغرق فكره فيه، وهو وإن كان أمر حقيقي، إلا أنه ليس هو الجانب الوحيد من الأمر، وكذلك الحياة.

 

فهي وإن كانت كدح وكد وكدر، وأننا على سطحها في اختبار مستمر، وأن ابتلاءاتها شيء مقدر محتوم، إلا أنها الملعب الرئيسي والوحيد الذي يجب أن نعبر فيه عن أنفسنا، ونجتهد كي نربح فيه مباراة العمر!

 

وليس من حقنا أبداً أن نشكو إلى الله شكوى امرؤ عاجز، ونولي اهتمامنا كله إلى تتبع وجوه القصور فيها، وإنما علينا أن نشغل الذهن بكيفية أن نحقق أنفسنا، ونغامر، ونجدد، ونبدع، عل ما نفعله يكون طوق نجاة لنا، ومحفز لغيرنا، ولبنة في صرح الأمل الذي نتواطئ جميعاً على هدمه والتشكيك في وجوده.

 

لن أكون مثالياً وأخبرك أن الواقع وهم، والظروف خرافة كأصدقائنا من أهل التنمية البشرية، لكنني على الجانب الآخر لا أجد بداً من التأكيد على أن البكاء على واقع ليس لنا يد في تغييره بشكل مباشر، ولا يقع تحت سيطرتنا التامة أمر ليس برشيد، والأولى من هذا أن نرصد في أنفسنا ما يحتاج لتغيير وتعديل، وما يتطلبه من تنمية وتطوير، وتمليه علينا التحديات من إبداع وابتكار.

 

ومن يراقب الناس يجد أن بعضهم يهرب إلى الخلف كصاحبي المتشائم، يرجع ليجلس على مقعد الضحية، ويكتفي بسكب العبرة الحزينة، والشكوى المؤلمة، والاستهجان من كل امرئ قرر أن ينظر للأمر بشكل مختلف ويتحدى ويقاتل، وبعض الناس يهرب إلى الأمام!، يملئ خزان عقله بحلم قادم، ينتظر تغير الواقع للأفضل كي يعبر عن نفسه وما يملك من طموحات وتطلعات، أو ربما أغرق نفسه في رواية حالمة، أو أدمن حضور دورات مطاردة الأحلام التي نسمع عنها هنا وهناك.

 

القلة فقط هي من تملك الجرأة على الأمل، وتصوغ أحلامها بذكاء!

 

القلة هي التي تنظر من أعلى، وتستريح قليلاً من الاشتباك مع التفاصيل المنهكة، وتحاول أن تصوغ فلسفتها الخاصة في الحياة، وهذا يا صديق كان دائماً ديدن الرسل والأنبياء والمصلحين والمبدعين في كل زمان ومكان.

 

العمل على المتاح وتوسيع دائرة الخيارات وكبح النفس عن العيش في دور الضحية، وشجاعة المقاومة.

 

ولا يوجد مصلح أو مبدع أتى والعالم مهيء للاحتفاء به، على العكس كان الجحود به وبما يملك هو الغالب والمسيطر، لكنه لم ينل من العزيمة إلا بقدر صغير يتناسب مع كوننا بشر قد نحزن ونتأثر وقد نبكي قليلاً، دون أن يكون هذا حائلاً عن إكمال المسير وإعادة المحاولة.

 

دعك من أنك ـ ومهما طالعت من كتب الأولين ـ لن تجد أبداً أهل زمان راضين عن زمانهم، أصحاب كل زمن يرون واقعهم هو الأشد قبحاً وسوءاً، وأنهم عباقرة قد أتوا في الزمن الخطأ!

 

وصدقني، لا أقصد أبداً أي تهاون أو استخفاف بما يحيط بنا في واقعنا هذا، غير أن دروس الحياة هي التي تشدد على وجوب النهوض والمقاومة.

 

أعود إلى صاحبي الذي يلوم علي، مستاء أن أكتب عن الأمل، لأؤكد له أن الكتابة عن الأمل والتفاؤل لم يعودا أمراً ترفيهياً، إنهما فرض عين على كل امرء فينا، وليس من مصلحة أحد ابداً أن ييئس الناس في دنياهم، ويسد أمامهم طرق التفاؤل، لا جدوى من العيش البائس، ووالله إن لقتل الأمل في نفوس الناس جريمة كاملة، غير أنها جريمة ـ مع كثرة شهودها ـ ليس عليها إثبات!

 

بل، ولو قتل أهل السياسة، والتجارة، والإعلام الأمل في واقعنا، فإن دورنا ـ الذي خلقنا الله من أجله ـ أن نعيد خلق الأمل من جديد، وتذكير الناس أن لا شيء يساعد الشر واهله على امتلاك ناصيتنا كاليأس وانعدام المقاومة.

 

ولا شيء يربكهم كالحلم والأمل .. فاحلموا يرحمكم الله!