
مُحمد نَجيب المُفْترَى عَليه

حورية عبيدة
18 يونيو 2016حَكَم مِصر سبْعة عشر شهراً، واعْتُقل ثلاثون سنة؛ ولم يُوجه اتهاماً لأحد! احتفظ بصورة نادرة لـ "كلبةٍ تُرضِع قطة"، قانعاً بأن الحيوانات أكثر رأفة من البَشر، وحين وارَى كَلبَه التراب في حديقة مُعتقَلِه؛ كَتب على قبره"هنا يرقد أعزُّ أصدقائي"،.. ذلك المَكلوم في الإنسانية، هَاضَ الحُزنُ قلبَه كذلك في ثلاثة من أبنائه - من أصل أربعة - فُجِع بوفاتهم، أحدهم قُتل في ألمانيا بسبب نشاطه المعادي لليهود؛ ودفاعه عن ثورة 52 المصرية وعن فلسطين، والثاني اعْتُقل في "ليمان طرة" عدة أشهر خرج بعدها مُنهاراً مريضاً بالقلب؛ مات على إِثْره، ثم تلته ابنته الوحيدة، أما الرابع الذي تُوفي بعد رحيل أبيه؛ فقد تم فَصْله من المقاولين العرب، فَعَمِل سائق تاكسي!
محمد نجيب؛ أول رئيس مصري يتولى الحُكم بعد زوال الاحتلال البريطاني، قصته من وحي مذكراته وماكتبه الآخرون عنه؛ تَشِي برحلة عذابٍ وألمٍ مُمِض عاناهما؛ رغم رُوحه المُفْعمة بالأمل الراغبة في إرساء حياة ديمقراطية صحيحة لبلدٍ طموحٍ يَود ألو تَبَوأ مكانته اللائقة، وبمناسبة الاحتفال بذكرى رحيل آخر جندي بريطاني عن مصر في الثامن عشر من يونيو عام 1954؛ مُحتَّمٌ علينا أن نتوقف طويلا عند محطة محمد نجيب الرئيس والإنسان- وليس عند محطة المترو بالقاهرة المسماة باسمه- عَلَّنا نَرُدُّ للرجل؛ ولسِيرته بعضا من كرامة أُرِيقَت في حياته.. فهكذا دَأْبُنا ودَاؤنا ودَيدننا ألا نُكَرِّم رموزَنا إلا بعد رحليهم.. والعُهْدة على مذكراته التي خَطَّها بيمينه؛ وأَيدَها بعض المؤرخين كجمال حمدان وثروت عكاشة.
هو الرئيس الذي وُضِع مذ عام 1954 تحت الإقامة الجبرية مع أسرته في قصر زينب الوكيل- بعد تجريد القصر من محتوياته- ومُنِعت عنه الزيارات حتى عام 1971، حتى أنهى الرئيس السادات إقامته الجبرية، لكنه ظل ممنوعا من الظهور الإعلامي حتى وفاته في 1984، هذا وقد عانى من شَطب اسمه من السجلات والوثائق والكتب، طِيلة ثلاثين سنة، حتى اعتقد الكثيرون أنه قد تُوفي، واستمر الحال حتى أواخر الثمانيات؛ عندما عاد اسمه للظهور ثانية، وأُعيدت الأوسمة لأسرته؛ وأُطلق اسمه على بعض المنشآت والشوارع.
تولى الحُكم في 18 يونيو 1953 حتى 14 نوفمبر 1954، أي مدة سبعة عشر شهرا فقط، حافلةً بالأحداث الجِسام والصراعات، بدأ حياته بالتحاقه بالمدرسة الحربية، حصل بعدها على ليسانس الحقوق(أول ضابط مصري يحصل عليها)، ثم دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي، فدبلوم الدراسات العليا في القانون، وأجاد أكثر من لغة، شارك في حرب فلسطين 48؛ وأُصيب سبع إصابات منها واحدة بصدره، تَعَرَّف بعدها على تنظيم الضباط الأحرار، وهنا يقول ثروت عكاشه-أحد الضباط الأحرار- في كتابه" مذكراتي في السياسة والثقافة" أن اللواء محمد نجيب كان أحد قادة الجيش المرموقين لأسباب ثلاثة: أخلاقياته الرفيعة، ثقافته الواسعة، شجاعته في حرب فلسطين.
كان اختيار الأحرار لمحمد نجيب سر نجاح التنظيم في الجيش، فكان الضباط يسارعون للالتحاق بعد أن يعرفوا أنه منضم للحركة، وهنا يقول المؤرخ العسكري اللواء جمال حمدان: أن الحركة لم تكن لتنجح لولا انضمامه، بسبب سُمعته الطيبة؛ وأهمية منصبه، أما باقي الأحرار فكانوا ذوا رُتَبٍ صغيرة، وغير معروفين، بعدها تَصَّدرت صورته الصفحة الأولى بالجرائد المصرية تحت عنوان" اللواء نجيب يقوم بحركة تطهيرية في الجيش"، وأذاع الصاغ مُحمد أنور السادات - وقتذاك- بيان ثورة 52 في نفس اليوم.في البداية تولى منصب رئيس الوزراء- نظراً لتشكيل مجلس للوصاية برئاسة الأمير محمد عبد المنعم- وكان جمال عبد الناصر وزيراً للداخلية.
أصدرت وزارة نجيب قانون الإصلاح الزراعي- لكنه طُبق في عهد عبد الناصر- ثم قانون تحديد الملكية، ثم قانون تنظيم الأحزاب، ثم قرار بإلغاء دستور 1923، ومرسوماً بحل الأحزاب السياسية، وفي يناير 53 تم تشكيل لجنة لصياغة الدستور، وصدر دستورٌ مُؤسس في فبراير 1953، وفي 18 يونيو من نفس العام تم إعلان الجمهورية وإلغاء الملكية، واختير محمد نجيب رئيسا للجمهورية؛ محتفظا بمنصب رئيس الوزراء؛ وتَخَلِّيه عن منصب وزير الحربية وقيادة الجيش.
كان على خلاف مع مجلس قيادة الثورة؛ بسبب رغبته في عودة الجيش لثكناته، وبناء حياة نيابية مدنية، وبدأ صدامه مع عبد الناصر بدايةً؛ بسبب رغبة الأخير تعيين صديقه "عبد الحكيم عامر" قائدا عاما للقوات المسلحة وترقيته من رُتبة صاغ إلى رتبة لواء مباشرة! مما يتعارض مع قواعد الجيش، وظل نجيب يقاوم مدة ثلاثة أسابيع، حتى رضخ في النهاية أمام قرارات المجلس، وكان هذا الحادث مُؤشراً له على أن مقاليد السلطة بدأت تتجمع في يد شخصيات مُعينة، فقرر إرساء الحياة المدنية، وإنهاء سيطرة الجيش على الحكم.
يقول في مذكراته: "خرج الجيش من ثكناته، وانتشر في المصالح الحكومية والوزارات المدنية، فوقعت الكارثة، وأصبح لكل ضابط من ضباط القيادة "شِلة"؛ غالبها من المنافقين، استبدلوا سياراتهم الجِيب وركبوا سيارات الصالون الفاخر، وترك أحدهم شقته المتواضعة؛ واستولى على قصر من القصور ليكون قريبا من إحدى الأميرات، وترك ضابط آخر الحبل على الغارب لزوجته؛ فعرفت كل مايدور في مجلس القيادة، فاستغلته لصالحها وصالح زوجها، وآخر طارد زوجة طبيب الملك فاروق الخاص... صدمت هذه التصرفات بعض الضباط- حتى قِيل أن الثورة طردت مَلِكا واحدا؛ وجاء ثلاثة عشر مَلِلكاً!- وقرروا التخلص من هؤلاء الفاسدين.
بدأ خلاف نجيب مع ضباط القيادة- حسب تعبيره- حول محكمة الثورة التي تشكلت لمحاكمة زعماء العهد الملكي، ثم بسبب اعتقال الزعماء السياسين، وكان من بينهم الزعيم مصطفى النحاس الذي رفض نجيب اعتقاله، لكنه فوجئ بعد توقيعه للكشف أن اسم النحاس قد اُضيف دون عِلمه، ثم زاد الخلاف بعد مصادرة 322 فدان من أملاك زينب الوكيل حرم النحاس باشا، وكذا الحكم على أربعة صحفيين بالمؤبد ، ومصادرة صحفهم بتهمة إفساد الحياة السياسية، وسحب الجنسية من ستة مصريين من الإخوان المسلمين، ورَفْض زكريا محيي الدين وجمال سالم أن يُؤديا اليمين الدستورية أمام نجيب بعد تَعيينهما.
(الجماهير الغاضبة)
في عبارات مُختصرة حزينة؛ قدم نجيب استقالته، فأصدر مجلس القيادة قرارا بإقالته، وادَّعى البيان أن محمد نجيب طلب سُلطات أكبر من سلطات أعضاء المجلس، وأن يكون له حق الاعتراض على قرارات المجلس، وأعلنوا أنه لم يعلم بقيام الثورة إلا ليلتها فقط.
بعد إذاعة بيان الإقالة؛ خرجت الجماهير الغاضبة تحتج رافضة، واندلعت مظاهرات هادرة طِيلة ثلاثة أيام متوالية تؤيده، مُعلِنة:" محمد نجيب أو الثورة"، وفي السودان هتفت الجماهيرالجارفة " لا وحدة بلا نجيب"، وانقسم الجيش بين مؤيدين لعودتة ولإقرار الحياة النيابية، وبين مناصرين لمجلس قيادة الثورة، واشرفت البلاد على حربٍ أهلية، وتدارُكاً للموقف؛ أصدر المجلس بيانا بعودته لِسُدَّةِ الرئاسة.
من فوره طَفِقَت مُشاوراته لعودة الحياة البرلمانية، ومناقشة الدستور الجديد، وإلغاء الأحكانم العرفية والرقابة على الصحف، وأفرج عن المعتقلين، لكن لانشغاله مع الملك سعود بن عبد العزيز- الذي كان يزور مصر حينئذ- كان معارضوه يوجهون له ضربة قاصِمة قاضية، فنشرت الصحف أن اتصالات سرية تتم بين نجيب وحزب الوفد، فخرجت مظاهرات -لأول مرة في التاريخ- تهتف بسقوط الحرية والديمقراطية والبرلمان والأحزاب! وقام عُمال النقل بإضراب شَلَّ حركة المواصلات، وقد اعترف أحدهم بحصوله على أربعة ألاف من الجنيهات لتدبير تلكم المظاهرات. واُجبر نجيب على الاستقالة، ولكن عبد الناصر خَشي تَجدد المظاهرات، فوافق نجيب على الاستمرار إنقاذا للبلاد من حرب أهلية، ومحاولة لإتمام الوحدة مع السودان.
في 14 نوفمبر 1954 توجه نجيب من بيته بـ "حلمية الزيتون" لمكتبه بقصر عابدين، فلاحظ عدم تأدية ضباط البوليس الحربي التحية العسكرية له حينما نزل من سيارته داخل القصر؛ بعدها فوجئ بالبوليس الحربي وبعض الضباط والجنود يحيطون به وهم يحملون الرشاشات، ثم جاءه عبد الحكيم عامر مُعلنا –في خجل- أن مجلس قيادة الثورة قد أعفاه من منصب رئيس الجمهورية. وأقسم له أن إقامته في فيلا زينب الوكيل لن تزيد عن بضعة أيام يعود بعدها لبيته، لكنه لم يخرج من الفيلا طوال 30 عاما!
بحُزنٍ شديدٍ خرج مُحمد نجيب إلى معتقله بالمَرج- وهو يقارن بين ما تم له وما تم للملك فاروق حال خروجه لمصر، وكيف أُطلِق له 21 طلقة في طريق وداعه، وبعدما وصل للفيلا، سارع الضباط والعساكر بقطف ثمار الفاكهة من الحديقة، وحملوا أثاث البيت والسجاد والتحف واللوحات، وتركوها خالية على عروشها، وصادروا أوراقه ونقوده و تُحَفه ونياشينه، ومنعوه من الخروج، واُقيمت حراسة مُشددة حول مُعتقلِه، ومُنِعت عائلته من الخروج من الغُروب حتى الشُّروق.
في غرفة مُهمَلةٍ إلا من سريرٍ شديد التَواضع؛ يكاد يئن من كثرة كتبه التي كان يقضي معظم وقته معها؛ فقد كان يهوى القراءة في شتى العلوم خاصة الطب والفلك والتاريخ- وكان يتسلى بتربية القطط والكلاب؛ ويعتبرها أكثر وفاءً من البشر، ويُذكر أن أحد حُرَّاسه نَكَّل به، وضَرَبه في صدره في نفس موضع إصابته في حرب فلسطين 1948 ، وظل هكذا حتى أطلق السادات سَراحه عام 71، بعد أن كانوا" يُحصون أنفاسَه، ويَتَنصتون على مكالماته، ويزرعون أجهزة التنصت والعدسات في حُجرة مَعيشتِهِ" على حَد وَصْفِه.
تُوفي أول رئيس لمصر عام 1984 بمستشفى المعادي العسكري بالقاهرة؛ إثْر مُضاعفات تَليف الكَبد، بعد أن كتب مذكراته " كنت رئيسا لمصر"، وشهد كل من قرأه خُلو كتابه من أية اتهامات لأي ممن عَزَلوه، وقد شُيِّعت جنازته المَهيبة من مسجد" رابعة العدوية" بمدينة نصر، وحُمِل جثمانه على عربة مدفعٍ؛ يتقدمها حسني مبارك وأعضاء مجلس قيادة الثورة - الباقون على قيد الحياة- ودُفن بمقابر الشهداء عليه وعليهم الرحمة والغفران.