عن الجيش والعيش و

عن الجيش والعيش و"سلطة المواطنة"

جمال الجمل

جمال الجمل

01 أبريل 2017

 

(1)

عندما دعوت إلى الشروع في تأسيس "سلطة المواطنة"، لم أكن أفكر في كتابة مقال، بل كنت أفكر في "كتابة تاريخ"، وكنت أعرف أن الطريق طويل وشاق، فالأشلاء تسد كل الدروب المؤدية إلى المستقبل في بلد طال حصاره، داخل متاهة، تم إعداداها بإحكام، ليظل هذا الشعب يدور حول نفسه في الفراغ، دون أن يصل إلى أبواب الخروج والتحرر، فالفكرة بحد ذاتها ليست جديدة، لأنها تمثل حلم الناس في إدارة حياتهم لصالحهم، ومن غير استغلال أو قهر من الآخرين، لهذا انطلقت الفكرة في محاولاتها السابقة من غضبة لبعض الفئات التي تضررت مصالحها، فثارت مستندة إلى حق أصحاب الأرض، كما حدث  في "ثورة عرابي" ضد الخديوي توفيق.

 

(2)

الوقائع التي أدت إلى ثورة عرابي، لم تكن أكثر من "تمييز وظيفي" بين العنصر التركي في الجيش، والعنصر المصري، الذي بدأت تتكون لديه مشاعر انتماء وطنية، وإحساس بالكرامة والحق والقدرة على الدفاع عنهما كمقدمة للدفاع عن الوطن، هذا بالضبط ما يمكن تسميته في هذه الأيام بأنه "تمرد" أو "انقلا ب عسكري" على الحاكم، لذلك يمكننا "الهزار" بعناوين تناسب "كدبة أبريل" من نوع "قائد الجيش ينضم لسلطنة المواطنة"، ولا فرق أن يكون القائد متمثلاً في كذبي أو "صدقي"، المهم أن يفكر في جوهر علاقته وعلاقة المؤسسة التي ينتمي إليها، هل هي علاقة للدفاع عن الحاكم، أم للدفاع عن الوطن والمواطن؟

 

إذا كان البعض يتحرج من تقسيم الناخبين نوعيا بحسب وعيهم السياسي والقانوني، فكيف لم يتحرج من قبل لتقسيم الشعب إلى فئات لها حق التصويت، وفئات لا يحق لها التصويت؟

 

(3)

هذا السؤال هو الخطوة الأولى في طريق المراجعات الشاملة، التي أطالب بها الجميع، من مؤسسة عرابي إلى شارع أحمد عرابي، على الكل أن يراجع أفكاره، ويعيد فرزها، لحذف الرث والمتخلف منها، وما أعطبته ظروف الترهل، والإبقاء على الصالح وتطويره، وقد كنت قد بدأت حديث المراجعات قبل أيام بدعوة "حزب الوفد" لمراجعة تاريخه وأفكاره، باعتباره أقدم الأحزاب الليبرالية القائمة، التي أدارت البلاد في فترة من الفترات، وكما توقعت تعرضت الدعوة لدرجة من الانتقاد والهجوم على "الوفد" سواء بوضعه الحالي الذي لا يختلف عن هشاشة بقية التجارب الحزبية، أو في وضعه السابق، حيث هاجمه البعض من منطلق مهادنته للإنجليز وتحالفه مع الإقطاع، وهي اتهامات ترتبط بممارسات سياسية تختلف من فترة لأخرى، ولا علاقة لها بالانحيازات الفكرية والوطنية الأصيلة، ولا بمفهوم المواطنة.

 

(4)

أحب أن أتوقف قليلا لتوضيح هذه النقطة، لعدم الخلط بين حق "الاختلاف السياسي"، وضرورة "الاتفاق الوطني"، فالوطن لا يتكون من مكعبات مصمتة تتشابه في كل شيء، لكنه فسيفساء هائلة، طبيعة العلاقة بينها هي التي تؤدي إلى التناغم أو إلى التنافر، بمعنى أن لدينا أجناس وعرقيات ومعتقدات ومشارب فكرية ومزاجية مختلفة، بل ومصالح فئوية متباينة ومتعارضة في كثير من الأحيان، والمواطنة لا تعني طمس هذه الاختلافات، وطمس الهويات النوعية لكل فئة، وطمس تصوراتها عن الحياة، ونظرتها للمشكلات وحلولها، وحقها أيضا في الدفاع عن مصالحها أكثر من دفاعها عن مصالح فئات أخرى، وهنا تبدو مشروعية السؤال: إذا كانت كل هذه الاختلافات حقوق ولا خوف منها، فما جدوى الحديث عن "المواطنة"؟

 

(5)

جدوى الحديث عن المواطنة يتمثل في تنظيم هذه الحقوق وفق قواعد الدستور والقوانين والمواثيق الإنسانية، بلا تمييز نوعي لأي فئة، وهذا يعيدني للملاحظات التي أطلقها البعض منتقداً تجربة "الوفد" في الممارسة السياسية، بلا توقف كاف عند دوره الوطني (مهما كان الخلاف السياسي حوله)، ومنتقدا أنه حزب الإقطاعيين، وليس حزب الفلاحين، وهذا يأخذنا إلى مثال "الماجنا كارتا" الإنجليزية التي يطرحها باحثون كثيرون كوثيقة تنظيم للسلطة، فرضها مجموعة من الأمراء الإقطاعيين وكبار ملاك الأراضي، للحفاظ على حقوقهم في مواجهة السلطات المطلقة للملك، لكن "الحق الفئوي" لكبار الملاك، عندما تحول إلى وثيقة قواعد، وإجراءات أوسع لتنظيم  السلطة بلا استئثار، اتسع المفهوم ليشمل قطاعات أكبر من الناس مع تطور الوعي والنظام الاجتماعي، وهذا يعني باختصار، أنني لست "ساذجاً"، وأنا أساوي في المواطنة بين كل أفراد ومؤسسات المجتمع.. بين العامل ورجل الأعمال، أو بين الغني والفقير، أو بين القوي والضعيف، فأنا عندما أطلب ذلك، لا أطالب بالجمع بين "الذئب والحمل" في حظيرة واحدة، ثم أقول لكل منهما: شوف مصلحتك.. دعه يعمل.. دعه يمر، لأن مصلحة الذئب أن يلتهم الحَملَ، ومصلحة الحمل لن تتحقق ابدا بدون ضمانات حماية ورعاية، وهذا ما تكفله سلطة المواطنة في أي دولة عصرية، وإذا لم تفعل، فهذا يعني أنها لا تزال في طور "الحظيرة" أو "الغابة".. بلا قواعد ولا قوانين ولا مواثيق.

 

(6)

نقطة أخرى تتعلق بالتفرقة بين "سلطة المواطنة" و"جمهور الناخبين"، الأولى مفهوم يحدده الوعي وإدراك منظومة الحقوق والواجبات، وهذه درجة كيفية لا تتوفر لكتلة الناخبين، لأنها بالأساس كتلة رقمية محددة بمواصفات للعمر، دون شروط في الوعي والإدراك السياسي للحقوق والواجبات، وإذا كان البعض يتحرج من تقسيم الناخبين نوعيا بحسب وعيهم السياسي والقانوني، فكيف لم يتحرج من قبل لتقسيم الشعب إلى فئات لها حق التصويت، وفئات لا يحق لها التصويت؟، بل وليقل لنا: كم من هذه الكتلة يمارس حقه في الاختيار بطريقة مقبولة؟، وكم يتم استغلالهم، في تلويث الديموقراطية وتزييف إرادة بقية الناخبين؟

 

على الكل أن يراجع أفكاره، ويعيد فرزها، لحذف الرث والمتخلف منها، وما أعطبته ظروف الترهل، والإبقاء على الصالح وتطويره.

 

(7)

قد لا أكون ذهبت إلى النقطة التي أردت التركيز عليها أكثر في هذا المقال، وهي مراجعة عرابي لموقفه من المواطنة، وإعادة تدقيق دور المؤسسة التي ينتمي إليها بحيث تظل "مؤسسة وطن" لا "مؤسسة حكم"، وبحيث يكون ولاءها ودفاعها الأول عن المواطن وليس الحاكم.. عن الوطن وليس النظام.. لكنني أعتمد على ذكاء القارىء المتابع لمثل هذه النوعية من المقالات، وأثق أنه يلتقط الفكرة ليناقشها ويطورها مع نفسه ومع الآخرين، آملاً أن نفكر بمنطق تهيئة الوطن أمام كل فئاته وتنويعاته، وأن نعترف بحق الجميع في السعي إلى تحقيق مصالحه، لكن ينبغي أن تكون المحصلة النهائية لمكاسب الفئات والأفراد، هي مكسب كبير للوطن، وليست على حسابه، فليزرع الزارعون، ولتنتج المصانع، وليربح رجال الأعمال، لكن دون فساد، ودون استغلال لعرق الفلاحين والعمال، ودون تشريعات ظالمة، وضرائب منحرفة، وإجراءات تؤدي إلى ثراء فاحش لفئات وإفقار مدقع لفئات.

 

وحينها، قد لا نتشاجر حول توصيف هذا النظام: هل هو رأسمالي أم اشتراكي؟.. مدني أم عسكري؟.. لأن دولة العدل والدستور لن تضيف إليها أو تنتقص منها التعريفات... ولتستمر السياسة بعد ذلك مجالا للاختلاف في ملعب الوطن.

 

tamahi@hotmail.com