
لأن "المقاتل" في المكان الخطأ !

تامر أبو عرب
25 أغسطس 2016(1)
"الشعب هو ظهر المقاتل، وحين يشعر المقاتل أن شعبه قد مل منه فإنه لا يعود بمقدوره أن يقاتل".
يستغرب السيسي ملل الشعب، ونستغرب نحن استغرابه.
(2)
"ولم يكن في وسع المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلا أن يتطلع باحترام وإجلال لرغبة الجماهير العريضة من شعب مصر العظيم في ترشح الفريق أول عبد الفتاح السيسى لرئاسة الجمهورية وهي تعتبره تكليفاً والتزاماً".
بعد انتظار طويل لنتائج الاجتماع الطارئ للمجلس العسكري، صدر هذا البيان ليعلن موافقة المجلس على خلع السيسي بدلته العسكرية تمهيدا لترشحه في انتخابات الرئاسة المقررة بعد شهور قليلة.
كنت أتوقع هذه الخطوة لحد اليقين، لكنني رغم ذلك قضيت الساعات الأخيرة في ذلك اليوم على المقهى مع بعض الأصدقاء، أفتح المواقع الإخبارية كل عدة ثوان ربما حمل الاجتماع أخبارًا جديدة.
أعلنت الخبر بأسى على الأصدقاء، فقال لي أحدهم:
- وانت زعلان ليه؟ ما هو أكيد هيفشل
قلت:
- زعلان علشان هيفشل
(3)
لا يمكن لإنسان سوي أن يتمنى فشل رئيس أيا كان حجم رفضه له، لأن فشل الرؤساء له ثمن لا يدفعه إلا الشعب، فمبارك الذي أفقر المصريين وأمرضهم وقتلهم لثلاثين عامًا يقضي الآن السنوات الأخيرة مستجمًا بعدما قضى السنوات التي سبقتها متنزها بين المحاكم والمستشفيات الفاخرة، بينما يعيش الملايين من ضحايا فساده وفشله في العراء وطوابير العلاج والمنازل الآيلة للسقوط.
ولكن أيضا لا يمكن لإنسان سوي أن يتوقع نجاحًا لما تم تجريبه في السابق لعقود وأوصلنا إلى القاع، جنرال يخلع بدلته العسكرية ليدير المجتمع كما الكتيبة، يكتم أنفاسه ويقضي على تنوعه ويعتمد على أهل الثقة ويعتبر أي انتقاد خيانة وأي توجيه إساءة أدب، هذا مقبول من المقاتل في ساحات الحرب، لأن إضاعة الوقت في المناقشة حينها يهدد بالهزيمة حتى وإن كان الرأي صوابًا، لكنه يجلب الخراب حين يتم استدعاؤه لتدار به الأوطان.
حصل "المقاتل" على دعم لم يحصل عليه رئيس سابق، تقدم له كل المؤسسات فروض الولاء، ويحظر الإعلام الخاص قبل الحكومي الاقتراب من طرف ثوبه، وتشكل أحزاب المعارضة ائتلافات لدعمه، وتسخر أنظمة إقليمية إمكاناتها لضمان استمراره، لكن المحصلة كانت فشلا تلو الآخر، لأن الدعم السياسي الداخلي لم يجلب سوى مزيدا القمع، ولأن الأموال المقبلة من الخارج لم يتم وضعها في المكان الصحيح.
ولأن المقاتل موجودًا في المكان الخطأ.
(4)
يطلب المقاتل دعم شعبه، لكن هل دعم المقاتل شعبه؟
طوال 26 شهرا قضاها السيسي في قصر الاتحادية لم يلق الفقراء منه سوى إجراءات استثنائية ومطالبة بالصبر، جيوب الفقراء كانت دوما المخرج من أي أزمة اقتصادية، مقابل الكثير من كلمات المدح والثناء في الخطابات المتتالية، لكن ما لا يدركه الرئيس أن الإشادة بعظمة المصريين وروعة مواقفهم لن تفتح بيوتا، وأن ما يفتح بيوت الناس هو اجتهاد الحاكم لتحسين أحوالهم، لا أخذ ما في أيديهم لتحسين أحواله.
هناك، على نفس الموقع الإلكتروني، وعلى مقربة من تصريح جديد للرئيس عن ضرورة الصبر والتقشف لمواجهة الأزمة، يقرأ الناس أخبارا أخرى عن شراء طائرات رئاسية فخمة، وإعفاء نواب البرلمان أنفسهم من ضريبة كسب العمل، وإقامة وزير في فندق فاخر لعامين، ولا يجدون الحكومة والرئاسة تمارس التقشف نفسه لمواجهة ظروف اقتصادية صعبة هم من تسببوا فيها وليس الناس.
هكذا يفعل "المقاتلون" دوما.
عبد الناصر الذي كان يغازل الناس في كل خطاب ويقول إن الشعب هو القائد والمعلم، كان يحظر عليهم المشاركة في صنع القرار أو حتى الانضمام لأحزاب سياسية ويطلق عليهم أجهزته الأمنية ويلقي الآلاف منهم في السجون بتهمة التفكير، اعتمد على فئة محدودة من أبناء المؤسسة التي ينتمي إليها، تسببت سياساته في النكسة، وعندما جاءت، لم يدفع ثمنها إلا الناس.
المدنيون في أعين "المقاتلين" أعداد تزين مواكبهم، حناجر تهتف بأسمائهم وأصوات تلقى في صناديق الاقتراع، لكن عندما تأتي ساعة اتخاذ القرار، يدهسون إرادة الجميع ويقررون وحدهم.
(5)
طبيعي لرئيس حمل أول تحرك يطالبه بالترشح للرئاسة اسمه "كمل جميلك"، أن يعتبر مجرد بقاءه في منصبه جميلًا يسديه للمصريين يجب عليهم أن يشكروه عليه، دون سؤال عن تفاصيل صغيرة من نوعية انهيار الاقتصاد وتعمق الاستقطاب وحالة الحريات ومستقبل نهر النيل.
عامان على رأس الحكم لم يكفيان "رئيس الضرورة" لاستيعاب أن إجراءاتها التي يتخذها وهو يظن أنه يحمي بها الوطن، هي أكبر خطر على الوطن، عشرات الأسفار التي قام بها لبلدان متحضرة لم تقنعه بعد أن الطريقة التي يدير بها مصر تجاوزها الزمن، خطابات كثيرة أرجع فيها مسؤولية الفشل إلى الأعوام الثلاثين الماضية وما زالت كل سياساته منقولة من قاموس مبارك والمحيطين به مجموعة من رجاله.
عامان ولم يراجع حساباته أو يحمل نفسه مسؤولية أي إخفاق، عامان ولم يعترف أصلا بحدوث إخفاق!
هي لحظة مناسبة ليعلن الرئيس أنه لن يخوض انتخابات الرئاسة المقبلة، فما جرى في العامين الماضيين لا يشجع على تكرار التجربة بعدما أصبحنا أمام مجتمع ممزق وخزائن خاوية ومستقبل غائم.
ترك الأمر مربوطا بـ"رغبة الناس" إصرار على استنساخ التجربة نفسها، فمن قالوا "كمل جميلك" كانوا عدة آلاف ورغم ذلك اعتبرها المشير إرادة شعبية وترشح.
العبرة الآن بمصلحة الشعب لا رغبته، ومصلحة الشعب في تركه يتنفس.