رعب الاختفاء القسري

رعب الاختفاء القسري

محمد إبراهيم

محمد إبراهيم

01 مارس 2018

 

قبل أن يخرج من البيت طلبت منه والدته – كما عادة الأم المصرية – أن يطمئنها عندما يصل إلى مقصده, كان لا يلتفت كثيرا لطلبها ذلك لأنه كما يقول ( كبر على الكلام ده ), وكانت عادة والدته أن تتصل به إذا طالت الفترة ولم يتصل كما طلبت, وكانت في الغالب تُقابَل بعدم رده وضغطه على زر الإلغاء.

 

كانت والدته قلوقة بطبعها, وزاد قلقها عليه بعد دخول السياسة دائرة اهتمامه, وفي ذلك المساء اتصلت به كما تفعل دائما, لكن لم يكن متاحا, لم يكن متاحا وقتها لكنها لم تعرف أنه لن يكون متاحا لسنوات طويلة دون أن تعرف هل وصل مقصده أم لم يفعل.

 

***

أن يختفي المرء, ألَّا يعرف طريقه أحد, ألَّا تُعرف عنه معلومة إلا بعض الشكوك والاجتهادات والشائعات, أن يكون ابنك/أخوك/ صديقك ملئ السمع والبصر ثم يتبخر كأنه لم يكن موجودا يوما, لا دليل مادي على وجوده من قبل ولا شاهد قبر يذكر تاريخ رحيله.

 

الأمر ليس كما قد يُخيَّل أنه مجرد شخص لا يعرفون طريقه, لكنه رعب حقيقي, رعب ألا تعرف مصير شخص قريب منك, ورعب في المجتمع من مواجهة نفس المصير.

 

***

أمهات ساحة مايو في الأرجنتين أسقطن النظام, كانت هناك حملة أمنية شديدة يقوم بها النظام العسكري وكان نتاجها مئات المختفين قسرا, ونظمت الأمهات حملات احتجاجية وتحملت ضغوطات أمنية شديدة, وانتشرت الحملة عالميا وانضم لها كل يوم شخصٌ جديد حتى أصبحت كمقبض ينخر في العامود الفقري للنظام الحاكم في الأرجنتين,

 

قاومت الأمهات فكرة أن أبناءهم قد قُتلوا ودفنوا في مقابر جماعية وانتهى أمرهم ورفعوا شعار "المُغيب حيا مادام لم يتم العثور على جثمانه"..

 

وكان إشاعة فكرة الإرتكان لموتهم محاولة من السلطات اللاحقة لإصابة الأمهات بالإحباط وإخماد حماسهم وبالتالي مطالبهم, لكن الأمهات رفضوا الفكرة جملة وتفصيلا ولم يقبلوا أي تعويض قد يحصلون عليه, ومازالت للآن تلك القضية تشغل الرأي العام الأرجنتيني بالرغم من مرور السنين الطويلة, ومازالت الأمهات يخرجن في مدينة " بوينوس آيرس يري " كل خميس رابطات رؤوسهن بالمناديل البيضاء عند النصب الهرمي في ساحة مايو والذي يُخلد قصتهم.

 

***

الأمم المتحدة من جانبها خصصت يوم 30 أغسطس من كل عام لنتذكر قضية الاختفاء القسري, تلك القضية التي اتفقت الدول على توقيع اتفاقية بخصوصها, ومن نقاطها:

 

-لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري.

 

-لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري.

 

-لا يجوز حبس أحد في مكان مجهول.

 

***

تُقدر بعض المنظمات الدولية عدد المختفين في سوريا نحو 85 ألف مختفي قسرا, 85 ألف شخص لا يعرف ذويهم مصيرهم, أي مئات الآلاف من المتضررين, وعشرات الأمهات والأطفال والزوجات الذين يجلسون كل مساء في شرفة منزلهم ينظرون للأفق في انتظار رجوع الغائب أو سماع خبرا عنه.

 

وفي مصر أشرف شحاتة وماصوني لم يكونوا بداية ذلك المسلسل ولم يكونوا آخره, فحسن البنا وصديقه مصطفى الأعصر اختفيا دون سابق إنذار أو خط يكشف ملابسات هذا الإختفاء, بينما اختفاء محمد القصاص – نائب رئيس حزب مصر القوية – ترك خيطا غير قابل للتأويل بعدما اقتحمت قوات الأمن منزله مساء يوم خميس قبل أن ينقطع الإتصال به وتنقطع أخباره وقبل أن يظهر بعد ذلك..

 

زوجة شحاتة وأطفاله يجوز أن يكون الدمع قد جف في عيونهم بعد أن سال أنهارا, بينما القلوب لا تجف دموعها, لكن دموع آهالي حسن والأعصر لم تجف يقينا لمدة أسبوعين قبل أن يظهرا ويراهما بعض المحامون مصادفةً, ناهيك عن 122 يوم اختفى فيهم إسلام خليل, إسراء الطويل اختفت 15 يوم قبل ظهورها في النيابة, ومصطفى ماصوني وعبدالحميد محمد وخالد حافظ عز الدين مختفون منذ تواريخ مختلفة ولم يظهروا بعد.. والقائمة تطول.

 

قد يظهر أحد هؤلاء في مكانٍ غير حكومي بعد إختفاء لأسباب مختلفة, لكن نفي وقوع الإختفاء القسري عن البعض لا يعني أن القضية غير حقيقية أو أنها لا تستحق التحقيق والإدانة, ناهيك عن دور الجهات الرسمية المختصة في البحث عنهم كمتغيبين إن كانت النوايا سليمة.

 

الاختفاء القسري ليس مجرد أرقام لترقيم أشخاص متغيبين, بل هو مشاعر منسحقة وقلوب منكسرة و رعبٌ صافي من مصير مجهول لا نتمناه لهم, فقط يريد الآهالي والأصدقاء أن يعرفون أماكن احتجازهم وملابسات الأمر, لا يطالبون بشيء إلا أن يرد أحدهم على أمه – القلوقة بطبعها – كي يطمئنها أنه وصل إلى مقصده.