
أحاديث الخوف

محمد إبراهيم
08 مارس 2018
(1)
توقف عن الحديث في السياسة, كان في السابق مُتيم بالمناقشات السياسية, عندما يجلس على المقهى مساءً ويبدأ لعب الطاولة يتجه لسانه بالحديث في السياسة, يحكي عما رأى في برنامج منى الشاذلي, وما قرأ في دستور إبراهيم عيسى, ويتكلم عن التوريث والحالة الاقتصادية "التعبانة ", ويشرح بنفس حماس إلقاء الزهر ما قرأه عن الخصخصة ويترحم على محلات عمر أفندي وصيدناوي.
لكن اليوم "في الميكروباص" أغراه جاره في الكنبة الخلفية أن يتجاذب معه أطراف الحديث عن حال البلد, لكن مع حماسٍ أقل وصوتٍ أكثر انخفاضا, وكأنه وجد في جاره صيدة ليفش فيه خلقه فلعن سعر البنزين وتعويم الجنيه وشكك في شركات الأدوية وفي سياسة السكة الحديد وأكد على مصرية تيران وصنافير وسخر من الانتخابات الرئاسية القادمة, ثم رن هاتفه فاهتز متراقصا على نغمة "تسلم الأيادي", ليتعجب جاره ويبهت لونه وتصفر وجنتيه وكأنه وجد عفريتا أمامه, ليضحك أخونا ويبرر له الأمر بأن "تسلم الأيادي" قد تكون ملاذا آمنا له ليمر من مطبات الأمن إذا ما جرى في الأمور أمور وأصابه مثلما أصاب غيره من الوقوع في قبضتهم بلا مُبرر حقيقي, لكن يبدو أن جاره لم يقتنع وطلب من السائق أن يتوقف قبل أن يرتجل مُسرعا من "الميكروباص" وكأنه يفرُ من يوم الحساب, وترك الرجل يُحادث نفسه مُبررا... (إذا كانت منى الشاذلي بطلت كلام في السياسة عشان الإنسان أهم, وإبراهيم عيسى بقى بيتكلم في التاريخ.. يبقى ما اعملش نغمة الموبايل تسلم الأيادي؟! ), تنهد قبل أن يُكمل الطريق نائما.
(2)
حوقلت زوجته عندما أخبرها أنه كان على شفا القبض عليه اليوم في الميكروباص, وأنه عندما ذكر الحكومة بسوء "جرجره " جاره في الحديث وزاد في اللعن وكأن معارضة الحكومة تجري في دمه, وبينما الحديث ساخن رن هاتفه بأغنية تسلم الأيادي.
شهقت زوجته قبل أن يُقسم لها أنه كان قد بدأ الارتياح له وأنه قد صدقه, لكنه في النهاية اكتشف أنه مُخبر!
حمدت زوجته الله على نجاته من ذلك الكمين المُحكم, وأخبرته عن ابن زميلتها في العمل الذي أوقفه الأمن في المترو وفتشوا هاتفه ليجدوا صورة بها علامة رابعة على الفيس بوك, ومن وقتها ولا يعلم طريقه أحد, ثم عندما تحدث زوجها في الإعلام أتوا ليأخذوه ليلا لكنه لم يكن في البيت, وبستر الله لم يكن أخواه في البيت أيضا, ومن وقتها لا يبيتون في البيت أبدا, ثم نظرت لزوجها قائلة : "مش مرسي كان إخوان ؟ بس مكنش بيعمل في الناس كده !".
أخبرها زوجها متوجسا ألا تتحدث مع أحد في السياسة ولا عن مرسي أو غير مرسي, غمزت له مُؤكدة أنها "ناصحة", ثم فتحت الفيس بوك وبجانب صورة الخوذة العسكرية التي تضعها على رأس صفحتها أضافت جملة "تحيا مصر.. يحيا السيسي".
(3)
لم يكن ذهابها للعمل اليوم مثل كل يوم, كانت تحمل بين جنبيها خوفا أشد وارتباكا غير معتاد, بالأمس دخلت لأول مرة الفيس بوك لتستكشف هذا الكائن الجديد, ولتبحث إن كان أحدهم يتحدث عن ابنها أويطالب بحريته, فوجدت جملة "تحيا مصر .. يحيا السيسي" لتضرب عينها, تلعثمت.. من في قائمة الأصدقاء قد يدعم الحكومة ؟! لتفاجئ بأن زميلتها المقربة وحافظة أسرارها هي صاحبة الجملة.
ضربت أخماسَ بأسداس, ولطمت خديّها, وراجعت حديثها معها في أدق التفاصيل, وربطت الأحداث ببعضها, إذن فقد جاء الأمن لبيتها لأنها أخبرتها أنهم كلهم يعارضون النظام ! وأنهم إخوان !
وحمدت الله سبعين مرة على أنها لم تذكر لها أين يقضي "عيالها" وزوجها ليلتهم.
هي أم في النهاية, وكما تخاف على من تم أخذه.. تخاف أن يُؤخذ من بقى, ومن بقى كانت ستسلمهم بيديها للأمن عن طريق "العصفورة" التي كانت تدَّعي أنها تحمل همهَّا وأنها مثلها تُعارض الحكومة !
بادرتها زميلتها بالسؤال عن الأحوال فأومأت برأسها دون أن تنبس ببنت شفه, ثم بدأت زميلتها في باكورة أحاديثهم السياسية اليومية قائلة : "مش قبضوا على خيري رمضان؟!".
ابتلعت ريقها بصعوبة, ثم ابتسمت ابتسامة صفراء قائلة : "يستاهل, اللي يعيب في شرطة بلدنا يستاهل اللي يجراله".
وتركت التساؤل في عينيّ زميلتها لتحدث نفسها .."حتى خيري رمضان ؟! يا روح ما بعدك روح".