
الحرّيف والعنيدة

أحمد مدحت
27 ديسمبر 2017
"أهم حاجة متكونش عنيدة.. مش هينفع أتجوز واحدة عنيدة وبتحب التحدّي أبدًا"
الجملة دي سمعتها من شاب كانت بتجمعني بيه قعدة ودية، كان فيها أكتر من واحد مكنتش قابلته قبل كده.. مش فاكر الجملة اتقالت ردًا على إيه بالظبط، لكن السياق العام للكلام كان عن الجواز، ومشاكله، ما بين ملاحظات وخبرات وشكاوي الرجالة المتجوزين بالفعل، وكلام العُزّاب عن طموح كل واحد في البنت اللي نفسه يتجوزها، أو عن السبب اللي خلاه يرتبط بالبنت اللي خاطبها حاليًا.
وعلِّقت الجملة في ذهني؛ يمكن لأني مكنتش أول مرة أسمع نفس المعنى ده، سواء كأمنية، أو كشكوى من راجل متجوز، أو انفصل عن مراته؛ لأنه شايفها عنيدة، عنيدة أكتر مما يمكن أن يحتمل.. أو هكذا يظن على الأقل!
بس هل فعلًا الست العنيدة يستحيل التعامل معاها للدرجة دي؟
(2)
في فيلم "الحرّيف" قدم المخرج العظيم الراحل "محمد خان" حدوتة بسيطة، مليانة بالتفاصيل، بطلها "فارس"، حرّيف الكورة المتمرد، متمرد على كل شيء؛ زي أي بطل مصمم يلعب مع الخسران، ويتحدى، ويجري حتى لو نفسه مقطوع، الحياة بالنسباله لعبة، مش مهم يطلع فيها دايمًا كسبان، بس المهم إنه يعمل اللي على مزاجه، ويعيشها على كيفه.. مع إن كيفه ده دايمًا بيوديه لاختيارات ضد مصلحته المباشرة، وغالبًا ضد المنطق والصح اللي مفروض يتعمل.
وكان منطقي جدًا إن "خان" يقدم حكاية حب بطله "فارس" وهي في مرحلة انهيار وتفكك، زي ما اختار إنه يقدم حياته كلها، في اللحظة اللي بدأ فيها الفيلم.. "دلال" حبيبة فارس، وزوجته السابقة، طليقته حاليًا، دايمًا بتتحداه، دايمًا بتحاول تعصبه وتثبتله أد إيه هو إنسان مؤذي لنفسه وللي حواليه؛ حالة كاملة من التحدي الممزوج بمحبة بتدارى وراه من ناحية "دلال"، ومحبة بتحاول تدارى ورا قوة من ناحية "فارس"؛ بسبب حالة العِناد المتبادل منهم.. كل واحد فيهم بيحاول يُخضِع التاني له، في صراع لخّصته جملة "فارس" عن "دلال" وهو بيحكي لأبوه: عاوزاني أطاطي بنت الكلب!
ده اللي كان ظاهرله؛ من حالة التحدّي والقوة اللي كانت بتتعامل معاه بيها، بس هل تصرفاتها دي كانت نابعة من قوة فعلًا، مستقوية يعني.. ولا خايفة؟
(3)
أظن إن عادةً لا تكتسب الست القوية قوتها دي غير بعد تجارب صعبة كتير، بتتعرضلها بسبب الجانب الضعيف الهش منها، تجارب بتحسسها إن الجزء الأنثوي الضعيف فيها ده لازم تدفنه تمامًا تحت قناع من التحدّي والجدية الصارمة، كأنها في حرب مع العالم كله؛ لإثبات إنها مش بالضعف اللي معظم الناس بيظنوه فيها.
كل ده كوم، ولما الضغط عليها ومحاولة كسرها تيجي من الإنسان اللي بتحبه، في كوم تاني خالص؛ لأن رد فعلها وقتها بيكون أسوأ بكتير، وأكثر شراسة، وحِدَّة.
(4)
عناد "دلال" وطريقتها المُستفزة مع "فارس" مكنتش من فراغ.. في نص الفيلم تقريبًا، وبمنتهى الذكاء، بيحكيلنا "خان" جزء سابق من حكايتهم، أثناء جوازهم، وإزاي وصلوا للطلاق رغم حبهم لبعض، بعد ما بيحكي إن "فارس" كان دائم الخناق معاها، لدرجة وصلت إنه ضربها وكسرلها ضلعين، ودي كانت المرة اللي صممت بعدها على الطلاق، ونفذته بالفعل.
طول أحداث الفيلم بتدور العلاقة بينهم في إطار التحدي والصراع؛ "فارس" عاوز يثبتلها إنه مستغني عنها، وهي تكابر وتعاند أكتر لدرجة إنها تحاول تتجوز واحد غيره، وتروح بنفسها تبلغه بإنها هتتجوز! إحساسه بإنها عاوزه تكسره كان مخبي عنه حقيقة بسيطة، وهي إنها خايفة، خايفة تتكسر قدامه تاني بحبها له؛ فيكسرها، ويجي عليها زي ما عمل قبل كده، مكنش قادر يفهم إن كل العِند ده محتاج احتواء وتفهّم، وإظهاره لاحتياجه ليها، مش العكس؛ لأنها محتاجة تحس إن هو كمان ضعيف ناحيتها؛ لأن الضعف في الحب لازم يكون متبادل، ساعتها مبيبقاش ضعف، بيبقى قوة متشاركة بين طرفين العلاقة ضد الدنيا وأعباءها.
"فارس" فهم ده قُرب نهاية الفيلم، وقدر يصالحها، وترجعله تاني مراته، في مشهد بسيط بينهم في المطبخ، مشهد كان أهم ما فيه إنه واجه عنادها وإظهارها للقوة من ناحيته بالحب، والاستمالة، من غير ما يبادلها نفس العناد والاستقواء الظاهري الكاذب، اللي دايمًا بيخلي كل حاجة تتأزم أكتر في المواقف اللي شبه دي.
(5)
مشكلة معظم الرجالة اللي بيرتبطوا عاطفيًا ببنت قوية الشخصية، وعنيدة، إنهم بيحاولوا يكسروا الجزء ده فيها، ويخضعوها تمامًا لأفكارهم ومعتقداتهم؛ يمكن ظنًا منهم إن ده تجلّي لقوة شخصيتهم ورجولتهم؛ لأن الأهل والمجتمع بيزرعوا في الراجل- للأسف الشديد- إن هي دي قوة الشخصية، وإن دي الحاجات اللي هتخليه يثبت لنفسه إنه راجل، و"شاكم" مراته، زي ما بيقولوا؛ كجزء من مفاهيم مشوّهة كتيرة جدًا بتتزرع فينا وتكبر معانا، وتبوّظ حياتنا.
مفاهيم بتنسي كتير من الرجالة إن قوة الشكيمة صفة محمودة في الراجل، أكيد، وأي بنت طبيعية بتدور عليها في الراجل اللي هترتبط بيه، لكنها صفة مرتبطة بالقدرة على تحمل المسؤولية، القدرة على الإقناع والمناقشة بالمنطق، لما يكون الراجل الأكثر نُضجًا وعنده منطق لاختياراته وأفعاله، منطق ممتزج بقدرته على احتواء عِناد أو غضب شريكة حياته، في وقت يمكن كل اللي بتكون محتاجاه منه فيه إنه يُظهرلها احتياجه ليها، وبعض الضعف تجاهها، اللي بيكون في نظرها وقتها منتهى القوة، والرجولة.