
المهرج و"الشرموراطور" العاري

جمال الجمل
12 نوفمبر 2016(1)
هل فكرت بعمق أكثر في حفلة "باسم يوسف" على "خالد صلاح"؟
هل فكرت بعمق أكثر في حفلة "باسم يوسف" على "خالد صلاح"؟
(2)
للوهلة الأولى تبدو الحفلة "خناقة" منفلتة وإباحية، تبادل فيها الطرفان ألفاظا غير معتادة في الحوار العلني بين الشخصيات العامة، وتبدو فيها أيضا قسمة "كلاب الحراسة" و"الشطار العيارين"، ولا أقصد بهذين المصطلحين ما قد يتبادر إلى الذهن من سب أو تحقير، بل أقصد الأصول الثقافية للمصطلحين، فالأول مترجم من الغرب ويشير إلى ما يسميه البعض عندنا "أبناء الدولة"، والثاني وصف لبعض الشخصيات المتمردة ضد السلطة الظالمة في العصرين المملوكي والعثماني، ويمكننا على سبيل الجناس أن نسميهم "أبناء الشوارع" كمقابل لمصطلح "أبناء الدولة".
وكما أسلفت فإن تعبير "أبناء الشوارع" هنا، لا يعني تحقيراً ولا اقترابا من الفهم الشائع عند كثيرين، فأنا أقصد التفسير الثقافي الذي يشير إلى الأفراد المرتبطين بالجماهير، وبحالة الشارع السياسي والاجتماعي، والذين بنوا شهرتهم مستندين على نصيب أوفر من الجماهير الغفيرة، وليس من المناصب أو الوظائف أو المؤسسات الكبرى.
(3)
من هذا المدخل الثقافي أستطيع القول أن باسم يوسف بحكم نشأته، وطريقة ظهوره، وتصوره للحياة، وللقيم التي يدافع عنها، يمثل النقيض لحالة خالد صلاح، وبالتالي فإن الخلاف الذي لخصه باسم في هاشتاج من ثلاث كلمات فقط: (#خالد_صلاح_......) هو مجرد اختصار (شورت كات) لخلاف عميق في الحياة، ولنموذجين متعارضين في المنشأ وفي الأهداف أيضاً.
خالد نشأ في بلاط الصحافة المطبوعة، بدأ تجربته المهنية من السفح بعد تجربة سياسية وإنسانية مراهقة، أدت إلى تشوش أفكاره وتشوه نفسيته، حيث التحق وهو لا يزال صبيا بأحد التنظيمات التكفيرية التي تغلغلت في الأحياء الشعبية والعشوائيات خلال الثمانينات، ودخل السجن غراً صغيراً، فلم يتحمل قسوة التجربة، وتحت مؤثرات كثيرة اتخذت مظهر الاستتابة انقلب الفتى المشوش إلى الاتجاه المعاكس، قادته دراسته للإعلام إلى العمل في صحف يصدرها ناصريون وقوميون (برغم أنه يكره عبد الناصر وتجربته).
وبعد حصوله على رخصة وخبرة العمل كصحفي انتقل للعمل في مؤسسات أخرى بمنطق الانتشار في السوق، فلم يراع الفرق بين كلاسيكية مؤسسة الأهرام (الحلم التقليدي للصحفيين) وبين تجارب عابرة للصحافة الشعبية أو ما تسمى بالصفراء، أو صحافة "بير السلم" مثل "الملتقى"، كما خاض تجربة التحرير التليفزيوني في مؤسسة خاصة، ثم ترأس إدارة وتحرير مؤسسة "اليوم السابع" التي نشأت في طروف خاصة ومريبة، سأكتب عنها قريباً بالأدلة والتفاصيل، لأنني كنت أحد الشهود والمشاركين في مرحلة الاستعداد لتأسيسها.
(4)
أما باسم يوسف، فهو طبيب لا ينتمي من الأصل لمهنة الصحافة، ولا الإعلام، لكنه التحق بها من خلال الوسائط الحديثة التي يسرتها ثورة الاتصالات، فكانت إطلالته من "يوتيوب" تعبيراً عن شحنة نقد ساخرة لمظاهر القهر والتخلف في مجتمع يضع فيه باسم قدمه، بينما رأسه مليء بمظاهر ومعايير الحياة في مجتمعات أكثر تقدماً، وخاصة أمريكا التي عاش فيها فترة، وبعد نجاحه في إطلالة "يوتيوب" ارتبط باسم بمؤسسات كبرى حاولت استثمار جرعة النقد التي يتميز بها في إسقاط حكم الإخوان، فأنتجت برنامجه المستقل بإمكانيات ضخمة، أتاحت له شهرة واسعة، لكنها تخلصت منه، بعد أن أنجزت هدفها، لأن باسم لم يتوقف عن النقد مع تغير النظام، ولم يستوعب فكرة المواءمات التي تقضي بأن نقد الرئيس الإخواني مسموح، ونقد المشير "ابن الدولة" ممنوع".
(5)
عند الاختبار يظهر الاختيار، فالمشوش بعد صدمة الاعتقال استكان في قبضة ضابط الأمن، بينما أفلت الساخر كالزئبق، وظل يسخر من الضابط وقبضته، كما فعل سلفه "علي الزيبق" في حكايات "الشطار والعيارين".. المشوش واصَلَ طريقه للصعود نحو الألقاب الرسمية: رئيس تحرير.. مقدم برامج تليفزيونية.. رئيس مجلس إدارة، بينما الطبيب المنفتح على العالم الجديد أطلق على نفسه (سعيدا) ألقاب ينزعج منها غيره، مثل: "المهرج" و"الأراجوز".
وبطبيعة الحال لن تجد في المواجهات أقوى من شخص ينتقد نفسه، لأنه لن يرتبك في حروب الهجاء والتجريح المتبادل، فباسم يعرف أن الهاشتاج هو مجرد "وسم" أي يعطي سمة سريعة ومكثفة دون إطالة ولا ملل، فهو ليس جدالا طويلا بين مختلفين، لكنه طلقة رصاص تحسم ضوضاء الجدال العقيم، هكذا حَوَّل باسم "الوسم" إلى "وصم" يدمغ به الطرف الآخر، مستعينا بالثقل الجماهيري الذي يعيد تفعيل المسكوت عنه والعاجز لدى الناس، فيجعل منه قوة إدانة وتنكيل معنوي لمن يراعون اسيادهم في القصر، ولا يكترثون بمشاعر وآراء الناس في الشارع.
الفائز في المواجهة لم يكن صاحب الإمكانيات الضخمة، الذي يوظف عشرات الصحفيين للنبش في تاريخ "المهرج".
(6)
توقفت أمام مفارقة المواجهة بين شخص يمتلك إطلالة تليفزيونية باهظة التكلفة، ومؤسسة إعلامية متعددة الأذرع، وبين شخص آخر لا يمتلك أكثر من اسمه، وحساب على موقع لنشر عبارات قصيرة، لكن الفائز في المواجهة لم يكن صاحب الإمكانيات الضخمة، الذي يوظف عشرات الصحفيين للنبش في تاريخ "المهرج" ومحاولة وصمه عبر أخبار وتقارير وتحليلات سردية طويلة تجاوزت آلاف الحروف والكلمات، بل كان الفائز والمؤثر هو الفرد الأعزل إلا من هاتفه الشخصي والجماهير التي ارتبطت بتعليقاته السريعة، حيث ضغط باسم يوسف 17 ضغطة فقط على أزرار هاتفه هي مجمل حروف وعلامات الهاشتاج الذي تصدر تويتر، وشغل الرأي العام المصري لأيام.
(7)
ما أريد أن ألفت النظر إليه من هذه التأملات، هو مظاهر قوة الفرد في عصر الاتصالات، فلم يعد التعبير عن الرأي متاحاً فقط لعبيد المؤسسات، ولم تعد قوة التأثير حكراً على "كلاب الحراسة"، لكن العالم تغير، وأصبح بإمكان المواطن الفرد (لو آمن بحقوق المواطنة وتفهم الأدوات التي يتيحها له العصر) أن يخوض معركته في مواجهة المتكلسين.. أبناء السلطات المتكلسة.. المماليك المتأخرين الذين يحاربون بسيوف راقدة وعقول خامدة، جيشاً من المستقبل يحمل البنادق والريموت كونترول.
(8)
قد يتذكر أحدكم عددا من فضائح السياسيين والمشاهير في السنوات الأخيرة، ويقول: ماذا يضير المفضوح من الفضيحة؟، لكن الإسقاط المعنوي في كل الأحوال كان مقدمة للسقوط الشامل، فلن يبقى المفضوح إلا بقدر الحاجة لاستخدامه في مسح القاذورات، كأي خرقة قديمة، وطبعا أنتم تعرفون اللفظ الذي نطلقه في مصر على الخرق القديمة، وتعرفون أيضا أن النظام في أشد الحاجة إلى هذه الخرق لمسح قاذوراته وشروره، وأعتقد أن باسم كان يعرف كما تعرفون، فأطلق رصاصته بقصدٍ وتعمد يجسد الوعي الفردي في زماننا، الذي لم يتوقف عند سذاجة الطفل البريء في زمن الإمبراطور العاري.
لا تخضع للمتواطئين الذين يمتدحون خدعة الثوب الأسطوري للإمبراطور.. واصرخ في الوجوه الخائفة الكاذبة: الامبراطور عارٍ.
(9)
الخلاصة: لا تخضع للمتواطئين الذين يمتدحون خدعة الثوب الأسطوري للإمبراطور.. واصرخ في الوجوه الخائفة الكاذبة: الامبراطور عارٍ.
tamahi@hotmail.com