
ورحل عزيز محمد

رجائي فايد
02 يونيو 2017
رحل عن دنيانا في الأيام الماضية رجل من طراز فريد، إنه عزيز محمد والذى تولى في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد منصب السكرتير العام للحزب الشيوعى العراقي، وعاصر أخطر أحداث التاريخ العراقي الحديث، خصوصا ما جرى في الموصل من قتل وسحل وشنق في الشوارع إبّان حركة عبد الوهاب الشواف، ومن بعدها ما جرى في كركوك من مذابح طالت مكونات هذه المدينة المتعددة الطوائف، ما بين أكراد وتركمان وهرب وكلدو آشور.
ولد عزيز محمد عام 1924 في قرية بيركوت بالقرب من الحدود العراقية التركية، وينتمى إلى عائلة فلاحية فقيرة، الأب من كوردستان العراق، أما الأم فمن كوردستان تركيا، ولزواج الأب من امرأة أخرى، حمل الأم على الرحيل بصغيرها إلى أربيل ليعيش طفولة قاسية، ويتحدث عن هذه الفترة باعتزاز (كنت صغيرًا حينما أخذتني أمي إلى مدينة أربيل تاركة بيت أبي وإلى الأبد، حيث تزوج أبي من امرأة أخرى مما سبب لها صدمة في حياتها. فأصبحت أعيش مع أمي وحدنا. ، لقد تعلقت بأمي كثيرًا على الرغم من وجود أبي) ولم يخجل أن يقول (أنا ابن أمي قبل أن أكون ابن أبي، فقد كانت والدتى تخدم حينذاك في البيوت من أجل الحصول على لقمة العيش).
وكان عزيز وهو في الرابعة عشر من عمره يذهب لتجمعات العمال في المدينة عارضاّ نفسه للعمل دون أن يجد من يقبل تشغيله لديه لصغر سنه، وبدأ وعيه مبكراّ بقضايا شعبه فلم يكن قد أكمل العشرين من عمره حتى إنضم إلى جمعية هيوا (الأمل)، ومن ثم إلى حزب شورش (الثورة)، وفي عام 1945 انتمى إلى الحزب الشيوعى العراقي، وتم القاء القبض عليه سنة 1948 مع أعضاء اللجنة المركزية للحزب، وحكم عليه بالسجن 15 عامًا، إلى أن تم إطلاق سراحه في عام 1958، عقب ثورة عبد الكريم قاسم، وفي عام 1964 تم انتخابه سكرتيرا للحزب الشيوعي العراقي، وظل يتبوأ هذا المنصب حتى عام 1993، ولم يعتزل الحياة السياسية بعد ذلك رغم شيخوخته، إذ عاد إلى أربيل حيث كانت التجربة الكردية في الحكم الذاتى والفيدرالية في بدايتها، وذلك ضمن تداعيات حرب تحرير الكويت، ثم كانت إرهاصات الانشقاق الداخلى بين الحزبين الرئيسيين(الحزب الديموقراطى الكردستانى بزعامة مسعود البارزانى وحزب الاتحاد الوطنى الكردستانى بزعامة جلال الطلبانى) قد بدأت تلوح في الأفق، ووصل الأمر إلى الاقتتال الداخلى بين الحزبين ليسفر الأمر في النهاية إلى تقسيم الإقليم الكردستانى إلى إقليمين، واحد عاصمته أربيل وزعيمه مسعود البارزانى، والثانى عاصمته السليمانية وزعيمه جلال الطلباني.
ولقد عايشت هذه الحالة على الطبيعة عام 2000 إبّان احتفالات الحزبين بمأوية الشاعر العربي الكبير محمد مهدى الجواهرى، فعند انتقال الوفود المشاركة من أربيل إلى السليمانية، وعند قرية في منتصف الطريق (قرية دكله)، ترجلنا من السيارات لنسير على الأقدام لمسافة كيلومتر واحد هي منطقة الحياد بين الإقليمين، أعطينا ظهورنا للأعلام الصفراء (الحزب الديموقراطى الكردستانى) لتستقبلنا الأعلام الخضراء (الاتحاد الوطنى الكردستانى)، والربايا المسلحة تقف في وضع الاستعداد على الجانبين، وقد توقفت في توضيح هذه الصورة كى ندرك حجم ماقام به عزيز محمد كى يوحد الإقليمين، فقبل هذا التاريخ بعامين بدأ بمبادرة منه بلقاءات مكوكية بين أربيل والسليمانية، تمخضت في النهاية إلى الاتفاق على حل كافة الأمور العقدية بين الطرفين، ولم يبق سوى التوقيع على اتفاق المصالحة، وهنا تلقفت الولايات المتحدة ما حققه عزيز محمد لتدعو الزعيمين الكرديين(البارزانى والطلبانى) إلى وشنطن لتوقيع اتفاق المصالحة، والذى تم بحضور وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، وليسجل تاريخيا وبلا أى جهد أمريكى بأن تلك المصالحة تمت في وشنطن وبجهد أمريكى، وظلت الأمور على حالها بين الطرفين إلى أن تم توحيد المنطقتين بالفعل عام 2002، وبحضور المفوض السامى الأمريكى زلماى خليل زاده، وفي إطار التحضير لغزو العراق، لكن يظل الدور الحقيقى لما تم والذى قام به عزيز محمد، حتى إنه استحق بالفعل أن يطلق عليه لقب حمامة السلام الداخلى، إننى أعتز كثيراّ بأن صداقة نشأت بينى وبينه، وما أكثر اللقاءات التي تمت فيما بيننا، والتى كنت خلالها أستمتع بحديثه عن أحداث عديدة عاصرها وكان عنصرا فاعلاّ فيها.
لقد بدأت علاقتى به في مؤتمر الحوار العربي الكردى في القاهرة عام 1998، حيث كان ضمن وفد الحزب الديموقراطى الكردستانى، بعد ذلك كنت أحرص على زيارته واللقاء به كلما سافرت إلى أربيل، وكان يستقبلنى هاشاّ باشاّ ونظل نتحاور سوياّ في كافة المستجدات في المنطقة وأستمع بسعادة إلى وجهات نظره في تلك الأمور، وذكرياته عن أيام نضاله الطويله، رحم الله عزيز محمد وسيظل اسمه محفوراّ في تاريخ المنطقة بشكل عام والعراق بشل خاص وكردستان العراق بشكل أخص، كواحد من الذين أسهموا في صنع العديد من الأحداث