تحريم البوفيه المفتوح وفقه الأولويات!

تحريم البوفيه المفتوح وفقه الأولويات!

مدحت نافع

مدحت نافع

15 مارس 2018

 

توقفت منذ فترة طويلة عن نقد وتفنيد مزاعم الجهل التى ترد تباعاً على ألسنة بعض الملتحين الذين يطلقون على أنفسهم لقب الشيخ فلان.

 

السبب الأول لعزوفى عن التعرّض لهؤلاء هو أنهم بالفعل قد سقطوا فى أعين كثير من الناس، وأن منهم من بات يسكن غياهب السجون، وقد جبلت على مواجهة الأقوياء المنتصرين والإعراض عن المهزومين المنكوبين. لكن السوشيال ميديا تأبى ألا تعكّر صفو معاهدة سلام أقمتها بينى وبين نفسى كيما أعرض عن فتاوى تعميق أزمة نقص الوعى فى المجتمع. فإذا بى أقع على مقطع لأحد الشيوخ (كبير السن) كنت قد عاينته فى موقعة الفتنة الكبرى باستاد القاهرة التى دعى إليها البعض لدى نصرة سوريا فى عهد حكم الإخوان، وكانت معرفتى الأولى باسمه (دون مقابلته) مدارها أنى وجدت صديقاً لى كان باش الوجه، جميل المعشر وقد تحوّل فجأة إلى شخص عنيف جهم بعد أن أصبح تلميذاً لهذا الشيخ يفخر بالنسب إليه وخدمته!

 

المهم أن الشيخ يتحدث فى كل شئ ويفتى فى كل مسألة دون حرج، ثم إذا بأحد الحاضرين يسأله عن شئ شديد الغرابة، يسأله عن مدى جواز الأكل فى البوفيه المفتوح! وهل حرام أن يشترى كوبونات (تموّلها شركته التى يعمل بها جزئياً) من أجل أن يحصل بها على وجبة أم لا؟!! بداية السؤال يشف عن عمق الأزمة الكبيرة التى يقع فيها المجتمع العربى كله حينما لا يجد شيئاً يرضى به الله من عمل وإخلاص وحسن معاملة.. سوى البحث فى مدى مشروعية الأكل فى البوفيه المفتوح! فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم. رواه البخاري ومسلم.

 

ونحن قد ابتلينا بكثر المسائل وكثرة الجدل وقلة العمل، وابتلينا أيضاً بصنف من مدّعى العلم لا يقولون "لا نعلم" فى أى مسألة، وكأنهم أفقه من الإمام مالك رضى الله عنه وأرضاه الذى قيل عنه "لا يفتى ومالك فى المدينة" والذى كان يسأل فى المجلس ستين مسألة أو نحو ذلك فيقول فى معظمها: لا أعلم، فمن قال لا أعلم فقد أفتى.. الأصل فى الأمور الإباحة، فانقلبت الحياة كلها فى أعين هؤلاء إلى محرمات بعد محرمات، يستدعون من السنة المشرّفة وأحاديث السلف الصالح كلمات ومسميات ثم يلبسون الحق بالباطل وهم يعلمون.. ما شأن بيع الغرر بالبوفيه المفتوح؟!

 

وهل أخفى عنى ما فى هذا البوفيه أم أننى أتخير منه ما أشاء والأصناف على اختلافها متاحة ومعروفة بل ومكرورة يوماً بعد يوم؟ وهل يقع غرراً أن يغير الطباخ من الوصفة التى اعتدت أن آكل بها طبق الكشرى مثلاً؟! وهل يكون من الغرر أن يفهم البائع ديناميات العرض والطلب ويقدّر حاجة الناس والفاقد من الطعام واقتصاديات الحجم التى تحقق له وفورات، متى قدّم كميات كبيرة فى بوفيه مفتوح يبيع من خلاله مختلف الأطباق ما لها سوق وما ليس لها سوق product mix ؟ وهل المشترى يجهل تلك الحسبة أم يعرفها ويقبل بها؟!.. الكل مستفيد لكن الشيخ لا يريد أن يقر آلية لم يعهد لها نظير فيما قرأ من كتب السلف! لكنه مع ذلك يقبل استخدام الميكروفون ويركب الطائرات التى تنقله بين دول يتقاضى فيها الكثير من الريالات والدنانير على الرغم من أن كل تلك المنتجات مستحدثة وفى حكم البدع لدى كثير من هؤلاء الشيوخ إلا من رحم ربى.

 

سوف نسأل عن هذا التخريف أمام الله عز وجل، وسوف نسأل عن الفقير المعدم والغنى المسرف والإمام الجاهل، وسوف تكون امتحاناتنا فى مسائل الأخلاق والسلوك والعلم النافع أصعب كثيراً من مسائل فقهية تتعلق بالبوفيه المفتوح وبحمل قربة من غازات البطن تتعرّق ولا يعرف حاملها إن كان عرقها طاهر أم لا؟!! بالله عليك أنى لك بتلك القربة، ولما تحملها؟! ولما توضع غازات المعى فى قربة أصلاً؟!! كلها أسئلة أضعها فى خانة الإسرائيليات التى أريد بها إفساد عقيدتنا ومعايشنا، وأى فساد أكبر من اضطراب الأولويات وغياب فقهه؟