إيران وانتفاضة شعبها

إيران وانتفاضة شعبها

ثابت عيد

ثابت عيد

01 يناير 2018

 

جُبِلَ الإنسان على الحكم على الأمور من منظوره الشّخصيّ. فمن نعتبرهم أصدقاء نتسامح مع أي خطأ يصدر عنهم. أمّا الأعداء، فلو صعدوا إلى السّماء السّابعة، أو حتّى العشرين، فسيبقون أعداء. وحتّي لو صدر منهم فعل جميل، فسيظلّون أعداء، وسيظلّ كلّ ما يصدر عنهم قبيحًا، وسنظلّ نشعر بتقزّر واشمئزاز من تصرّفاتهم.

 

من ذلك مثلًا أنّني التقيت أحد مستشاري حاكم دبي قبل سنوات، وكان صهيونيًّا قحًّا، فلمّا عرف بالصّداقة الّتي تربطني بعالم اللّاهوت السّويسريّ هانس كينج، جعل يُقلّل من شأنّه، ويُصغّر من قيمته. لماذا؟ لأنّ هانس كينج يقول في كتاباته إنّ إسرائيل تمارس «إرهاب الدّولة»!

 

وبهذا أصبح بنو صهيون يُصنّفون هانس كينج على أنّه من أعداء إسرائيل، وصار كل ما يصدر عنه غير مقبول من جانب بني صهيون.

 

والشّيء نفسه نلاحظه مع إيران: فسواء ازدهر اقتصاد إيران، أو انكمش، وسواء نجحت الحكومة الإيرانيّة أو فشلت، فهي تبقى في عيون أعدائها «العدو اللّدود».

 

لكنّ ما يحدث الآن قد يكون نتيجة طبيعيّة لعصر التّناقضات الّذي نعيشه منذ سنوات، فإيران الّتي لديها نظام ديمقراطيّ نسبيّ، متقدّمة بكثير عن معظم دولنا العربيّة الّتي مازالت تعيشُ في عصور حجريّة مظلمة في ظلّ أنظمة حكم قمعيّة، ديكتاتوريّة، قبليّة، رجعيّة، ابتعدت كثيرًا عن روح العصر، وعن مجرى التّاريخ الإنسانيّ وتطوره.

 

إيران لا يوجد فيها حكّام يبدّدون ثروات شعوبهم في تشييد قصور، وشراء منازل فخمة، والاستمتاع بنعم الحياة على حساب معاناة غالبيّة النّاس.

 

الإيرانيّون أيضًا شقّوا طريقهم نحو الاعتماد على أنفسهم في تصنيع حاجتهم من السّلاح.

 

يقينًا مازالت إيران تواجه مشاكل كثيرة متباينة، وهي مشاكل تحتاج إلى مضاعفة الجهود، ومضاعفة التّضحيات، لحلّها والتّغلّب عليها. لكنّها ستظلّ دولة عريقة، صاحبة حضارة عظيمة، وإن لم يتبقَ منها الكثير، لكنّها دولة مستقلّة، تأبى أن تلقي بنفسها في أحضان الآخرين، وترفض أن يقرّر مصيرها حكّام أجانب انتهازيّون.

 

إيران سدّت الفراغ الّذي نتج عن رعونة عرب الخليج، والسّعوديّة في مقدّمتهم، وأرادت إصلاح ما نتج عن انغماس العرب السّنّة في الغرف من متع الحياة، وفي حياة الفسق والفجور، والتّملّق، والكذب، والتّضليل.

 

هذه هي سنّة الحياة: كان أمام السّعوديّة بالذّات فرصة ذهبيّة لقيادة العالمين العربيّ والإسلاميّ. لكن بدلًا من ذلك انغمس حكّامها في الملذّات، والمتع الدّنيويّة الزّائلة، وأصبح امتلاك القصور في جميع بقع العالم أهمّ عندهم من مساعدة إخوانهم في الدّين واللّغة والدّم والرّحم في جميع أنحاء العالم.

 

قلت لأحد أغنياء السّعوديّة: «لماذا لا تساعدون فقراء بنجلاديش؟» فقال لي غاضبًا: «أنا لستُ رئيسهم، حتّى أساعدهم»! وبالطّبع نتائج هذه السّياسة المدمّرة تظهر سريعًا، ولا تنتظر طويلًا. فالسّعوديّة بصورتها الحالية قد تقهقرت عن روح العصر بعقود، إن لم يكن بقرون.

 

يكفي أن ننظر إلى التّقاليد الّتي أصبحت راسخة في عقول السّعوديّين، بضرورة احترام «الأمراء»، وتقديسهم، وطاعتهم، وضرورة الابتعاد عن السّياسة!

 

وبالمناسبة نظام «الأمراء» هذا ليس له أدنى علاقة بالإسلام. فرسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) أعلنها بوضوح لا لبس فيه، ولا غموض: «لا فضل لعربيّ على عجميّ إلّا بالتّقوي».

 

ديننا يقول إنّ النّاس سواسية. أمّا دين من يزعمون أنّهم يريدون تطهير الإسلام (من أدعياء السّلفيّة بالذّات)، فهو دين الطّبقات، طبقة تقول للشّعب: «نحن فوق، فوق، وأنتم تحت، تحت»، طبقة تسمح لنفسها بكلّ شيء، وتحظر على عامّة الشّعب كلّ شيء.

 

شقّ المجتمع بهذه الصّورة الفجّة إلى «أمراء» و«عبيد»، ليس من الإسلام في شيء.

 

والشّعب السّعودي سيحتاج إلى سنوات طويلة، وعقود مديدة، حتّى يُعاد تأهيله للحاق بحضارة العصر، وقيم العصر، وروح العصر: قيم عصرنا هي الدّيمقراطيّة والحرّيّة والكرامة الإنسانيّة والعدالة الاجتماعيّة. وهي جميعًا غير موجودة على الإطلاق في السّعوديّة بالذّات وفي جارتها الإمارات. لكنّ هذه القيم موجودة، ولو بنسبة منخفضة في إيران الّتي هي أقرب إلى روح العصر وقيمه من السّعوديّة والإمارات.

 

تناقضات عصرنا كثيرة لا تنتهي، تفاقمت بشدّة في السّنوات الأخيرة، عندما ظهر ما يمكن وصفهم بالمجانين في أمريكا والسّعوديّة بالذّات، ناهيك عن مصر.

 

كنتُ أعتقد قبل سنوات أنّ بوش الابن هو بالفعل أسوأ رئيس حكم أمريكا. فإذا بالأقدار تأتينا برئيس أسوأ منه!

 

وكنت أتوهّم أنّ الملك سلمان سيصلح أخطاء سابقه الملك عبد اللّه، فإذا به يزيد الطّين بلّة، بظلمه، وقمعه، وسياسته المتخبّطة.

 

لكنّ تناقضات عصرنا هذا مؤلمة فعلًا:

إذ كيف يمكن لدولة مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تفخر بديمقراطيّتها، وقيمها، وحرّيّاتها، ودستورها، وانفتاحها، أن تكون أكبر حليف للدّيكتاتوريّات القمعيّة في العالم؟

 

كيف نستطيع فهم ما قامت بها الولايات المتّحدة مع محاربة الدّيمقراطيّة في أمريكا الجنوبيّة بالذّات؟

 

وكيف نستطيع تفسير إصرار هذه الدّولة العظمى على دعم أعتى الأنظمة الدّيكتاتوريّة العربيّة في العالم اليوم؟

 

ألم يكن الأولى بالمؤمنين بالدّيمقراطيّة والحرّيّة أن يحاربوا الدّيكتاتوريّة والاستبداد؟

 

كيف يعقل أن يقوم رئيس دولة ديمقراطيّة بالتّحالف مع رئيس دولة ديكتاتوريّة؟!

 

يقنيًا الإجابة جاهزة: المصالح. والسّياسة مصالح وليس مبادئ.

 

هذا صحيح. لكنّ الشّعوب اليوم لم تعد، أو من المفترض أنّها لم تعد، مثل الأمس.

 

الشّعوب في الغرب بالذّات تستطيع التّغيير، وتستطيع إسقاط الحكّام، وتستطيع أن تقول: أنا الشّعب.

 

والشّيء نفسه إن حدث مع شعوبنا، فيمكن أن نصل إلى مرحلة جديدة من التّغيير، ومن القضاء على هذا الدّجل، والنّفاق، والكذب، والتّضليل!!

 

إيران الّتي لديها نظام ديمقراطيّ نسبيًا أيّدت نظام الأسد الدّيكتاتوريّ الفجّ. فخسرت بذلك أصدقاء كثيرين لها في جميع أنحاء العالم.

 

والسّعوديّة الّتي يمثّل نظام الحكم فيها أعتى الأنظمة الدّيكتاتوريّة في العالم حاربت ديكتاتور سوريا، برغم أنّهما جميعًا يقومان باستعباد النّاس، ونهبهم وتضليلهم.

 

لو أنّ إيران بقيت مخلصة للمبادئ الدّيمقراطيّة، وهبّت لمساعدة الثّورات العربيّة، لكان موقفها اليوم أقوى بكثير، في مواجهة الأنظمة العربيّة القمعيّة الاستبداديّة في السّعوديّة والإمارات بالذّات.

 

التّحالف مع الشّعوب أفضل من التّحالف مع أنظمة كرتونيّة.

 

والشّعوب العربيّة الإسلاميّة عمومًا بحاجة إلى حكومات عربيّة إسلاميّة تحترمها وتساعدها على النّهوض، والنّمو، والازدهار، وتكفّ عن قمعها واستعبادها.

 

ماذا لو كانت إيران قد ضحّت بديكتاتور سوريا، ودعمت المعارضة من أجل تأسيس نظام ديمقراطيّ حديث؟

 

ما غاب عن حكّام إيران هو أن الشّعوب العربيّة بالذّات تريد التّحرّر، وتحتاج إلى دعم، وتبحث عن نموذج وقدوة، وتنتظر من الشّرفاء حول العالم تأييد مطالبها.

 

إيران مطالبة اليوم بترتيب بيتها من الدّاخل، وبإعادة حساباتها في الخارج.

 

إيران مطالبة بوقف دعم الدّيكتاتوريّات، والسّعي إلى عمل مصالحة مع شعبها في الدّاخل، ثمّ مع الشّعوب العربيّة في الخارج.

 

إيران والعرب لديهم الكثير من المشتركات، وهي مشتركات ثقافيّة، وإسلاميّة، وتاريخيّة، وإثنيّة، واستراتيجيّة، ومصيريّة، أكثر بكثير ممّا يربط الشّعوب العربيّة المستعبدة بأنظمة تقوم على فلسفة الأسياد والعبيد، الأمراء والخدم.