
يعيش براء حتى في موته

تامر أبو عرب
06 سبتمبر 2016(1)
6 سبتمبر 2015
في البدء كانت نكتة سخيفة!
"براء مات"، "الله يرحمك يا براء"، "الخبر صحيح يا جماعة.. براء أشرف في ذمة الله"، "إنا لله وإنا إليه راجعون ادعوا لبراء بالرحمة".
موقع فيس بوك مليء بمنشورات من هذه النوعية، صور كثيرة لبراء، عبارات رثاء، إعادة نشر لمقالاته، يبدو أن أصدقاء براء يمزحون معه، مقلب دبره بعضهم والباقون شاركوا حتى يبدو الأمر طبيعيا تماما.
أتنقل بين الصفحات والمنشورات بحثًا عن مصدر النكتة، أو عن بوست لبراء يشارك بنفسه في حملات رثائه، طال البحث ولم أعثر على شيء، على العكس، منشورات الرثاء تزيد ويشارك فيها بأسى من لم أعهدهم من قبل يمزحون في مثلا هذه الأمور.
تسلل إليّ بعض القلق لكن ليس لدرجة أن أصدق هذا الهُراء، سأحسمها الآن، أخرجت هاتفي واتصلت ببراء، هاتفه مغلق، يزيد القلق، اتصلت بصديق مشترك، سألته: هو براء ماله؟
أجاب من على الطرف الثاني بصوت سمعته بالكاد: براء مات!
لم تكن نكتة سخيفة، وليتها كانت.
(2)
6 سبتمبر 2016
أصعب شيء أن تتحدث عمن تحب مستخدمًا كلمة "كان"، لذلك لن أستخدم هذه الكلمة البغيضة أبدا وأنا أتحدث عن براء.
365 يومًا مرت إذُا على رحيله، لن أبالغ فأقول إنها مرت سريعا لأنني فعلا افتقدته كثيرًا خلالها، مواقف كثيرة احتجت فيها لرأيه، كتابات كثيرة وددت لو رآها قبل النشر، جلسات كثيرة لم تكتمل في غيابه، حكايات كثيرة فقدت رونقها حين افتقدت مداخلاته.
براء أشرف اختصار لجيل شاخ قبل الأوان، ومات قبل أن يعيش، ابن جيل الهزيمة الذي تحولت أحلامه إلى كوابيس، في الحب، في الثورة، في المستقبل، في الحياة، ابن الجيل الذي استكثر عليه الجميع الفرحة وتآمر الجميع لإذلاله وإجباره على خفض رأسه، ابن الجيل الذي سكنت الأحزان قلبه فقتلته، وأصبح متكئًا على عصا في انتظار أن ينخرها السوس لإعلان الوفاة.
لكني وجدت سلوى دائمة في اختراع مذهل اسمه الأرشيف، تنقلت كثيرا طوال العام الماضي بين أرشيف مقالاته في موقعي مصر العربية وكسرة، وصفحته الشخصية على "فيس بوك"، ومدونته العتيقة "وأنا مالي"، لم يترك براء فيهما مقالات وخواطر بل ترك تراثا إنسانيا متكاملا، كتابات بديعة في السياسة والإعلام والفن والحب والحياة.
كل هذا وقد بلغت بالكاد الثلاثين؟ كل هذا وقد توقفت عن الكتابة بين 2010 و2014؟ كل هذا وسط هذا الجو المشحون بالكآبة والإحباط؟ كيف فعلتها يا أبو مليكة؟
(3)
"فكرة أن تحب ما تعمل، تعني ببساطة، أن ما تفعله أجمل منك، وصدقني، لا يوجد في نظرك من هو أجمل من نفسك، وكونك لم تعرف جمالك حقاً، لم يدهشك، لم يحقق لك السعادة القصوى بأنك أنت صاحب كل هذا الجمال، فأنت بحاجة (مثلي) لمراجعة حياتك من بدايتها، هذا إن لم تكن وصلت إلى نهايتها فعلاً"..
من مقال: "عن عملي.. الذي دمر حياتي".
كلنا ضيوف على هذا العالم، تزيد فترة بقائنا على ظهره أو تقصر، لكن النهاية واحدة وأكيدة، وتبقى العبرة بما تركته للناس وما يمكث في الأرض، وهذا المقال هو النص البشري الأهم الذي قرأته منذ تعلمت القراءة، وأظنه أثّر في كثيرين غيري، لم تعد حياتي بعده كحياتي قبله، علمني براء أن الحياة قصيرة أصلا، فما بالك لو اختصرناها أكثر لتصبح فقط ما يتبقى من أوقات العمل؟
بفضل براء أصبحت أقضي مع زوجتي وأولادي وقتا أطول، لم يعد العمل معياري الوحيد للحكم على الناس وأصبحت أراهم بشرًا لا آلات، لا يعني هذا أنني أصبحت أكره عملي، فمازلت أحب، لكن الأكيد أنني لن أسمح له بأن يفسد حياتي.
(4)
"لا أريد أن أنسى الألم. لا أريد مزيداً من الحكايات التي تنتهي بنهايات كئيبة وحزينة ولا أريد أن أعيش الحياة في قلق ونزق، حقد وحسد، شر وشره، كره وكسل، وأريد لو أبتعد عن القتل، قاتلاً، مقتولاً، أو شاهداً عليه".
من مقال (عما أريده من العالم قبل بلوغي الثلاثين).
بلغت الثلاثين مع براء في أسبوع واحد، مات هو قبل أن يحقق له العالم ما أراده، ولا أظنه سيحققه لي أيضا طال بي العمر أو قصر، لأنه لم يحققه من قبلنا لأحد ولن يحققه لأحد من بعدنا.
المهم أن نعيش على أمل أن يكون العالم أفضل، أن يخلو من الألم والكآبة والحزن والقلق والنزق والكراهية والقتل، لن يحدث ذلك، هذا أكيد، لكنه في كل الأحوال أفضل من تتعايش مع سوءاته فيطالك قبسٌ منها.
(5)
أشبع أرشيفك الثري حنيني الدائم إلى كتاباتك يا براء، لكن كيف سأشبع حنيني إلى جلساتنا وأحاديثنا يا صديقي، هل تذكر المقهى الذي كنا نجلس عليه بجوار منزلي؟ لم أجلس عليه منذ وفاتك، هل تذكر منزلي نفسه؟ لقد تركته، فلم يكن سهلا عليّ أبدا أن أمر من أمام المقهى كل يوم وأجد مقعدك المعتاد فارغا.
الأمر أقسى مما تتخيل، وأصعب مما تظن، وأظنك الآن سعيدا في مكانك وأنت ترى مشاعر الناس كلها تهفو إليك، هل عرفت أنك كنت مخطئا حين ظننتنا نحبك لأجل العمل؟
نحن نحبك وفقط.