العميل ألف وجارحي !

العميل ألف وجارحي !

تامر أبو عرب

تامر أبو عرب

08 نوفمبر 2016

"انزاح القسم الأكبر من جمهور وسائل الإعلام التقليدية إلى خانات المتابعة لشبكات التواصل الاجتماعى، وهى فضاء إعلامى لم تكن للدولة فى الأصل أى قوة تفرضها عليه، ولم تتمكن حتى الآن من صناعة تأثير حقيقى فيه، اللهم إلا ببعض المبادرات الفردية غير المنظمة من بعض المخلصين للدولة وهويتها".

 

المقال ليس موجها ضد شخص بعينه، لكنه ضد طريقة تفكير وضد أن تذوب الفوارق بين الحق والباطل والمقبول والعيب والوطنية والحقارة.

 

هكذا تحدث إبراهيم الجارحي في مقاله المنشور بجريدة "المصري اليوم" في 21 سبتمبر 2016 تحت عنوان "ذراع الدولة المقطوعة"، وبعدها بـ35 يوما كان يجلس أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي في مؤتمر الشباب بشرم الشيخ مطالبا بفرض قيود صارمة على مواقع التواصل الاجتماعي تصل لحبس المخالفين، قائلا: "أنا بتكلم عن عالم السوشيال ميديا المنفلت اللي أصبح من قوانينه الحق في الخوض في أعراض الآخرين والإساءة ليهم ولكرامتهم وده بقى حق مطلق، وبقت بطولة".

 

بينهما كان الجارحي قد حصل على ضوء أخضر ليحول تلك "المبادرات الفردية" إلى عمل منظم يتحول مع الوقت إلى ذراع ثابتة تواجه به الدولة / النظام تفوق الجماعات الشبابية والمعارضة النوعي على مواقع التواصل الاجتماعي، ووُضعت بين يديه إمكانات بشرية ومادية وصلاحيات كبيرة لتحقيق ذلك الغرض، لكنه استغلها بأسوأ طريقة ممكنة، وُضعت الأموال في المكان الخطأ، واستُغلت الصلاحيات في تحقيق مصالح شخصية لا مصلحة الدولة.

 

يعرف أي مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي أن العبرة في التأثير ليست بعدد المتابعين، لكن بفعاليتهم، وبالتأكيد يعرف إبراهيم نفسه هذه المعلومة، لكنه رغم ذلك أنفق أموالا طائلا لزيادة متابعي ما بين 13 و15 صفحة تم تخصيصها لتكون النافذة التي تُنشر من خلالها المعلومات / الشائعات، ويُشوَّه الخصوم / المعارضين، ويدعم النظام / الرئيس، ويُروّج للقرارات الخاطئ منها قبل الصائب.

 

لم يكتف الرجل بالترغيب بالأموال والمكانة فلجأ للترهيب أيضا لإجبار الرافضين أو المتحفظين على الانضمام إليه والقيام بالدور الذي يحدده لهم.

 

في غضون أسابيع زادت هذه الصفحات مجتمعة ما يزيد على 14 مليون متابع، لكن ذلك لم يكن مجانيا فضلا على أنه لم يكن ناجعا ولا مؤثرا، فهذه الملايين تم استقطابها من صفحات غير رسمية تحمل أسماء فنانين مثل منى زكي وعبد الفتاح الجريني، وصفحات أخرى اجتماعية وساخرة، بمقابل يتراوح بين 30 و35 جنيها للألف متابع، أي تم إهدار 500 ألف جنيه تقريبا في هذا البند وحده، لكن لأنها زيادات شكلية بقي التفاعل على هذه الصفحات ضعيفا للغاية لأن متابعيها غير حقيقيين.

 

تخيل أنك كنت تتابع صفحة باسم فنان شهير أو صفحة تنشر فيديوهات طريفة وفجأة وجدت نفسك تتابع صفحة تتحدث عن المؤامرات التي تحاك ضد النظام وتروّج للمشروعات القومية والقرارات الاقتصادية، لذلك كان طبيعيا أن تجد منشورا حصل على أقل من 100 "لايك" في صفحة يتابعها 5 ملايين شخص!

 

بالتوازي مع ذلك كانت أموال أخرى تُنفق على استجلاب صناع فيديوهات ومصممي جرافيك محترفين بمقابل يتراوح بين 5 و20 ألف جنيه شهريا، لإلباس الدعاية الرخيصة ثوبًا فاخرًا، حتى أنه عرض على مصمم جرافيك شهير معروف بموقفه المعارض للنظام أن ينضم إليه ليسخر من المعارضين بنفس الطريقة ويصنع فيديوهات داعمة للدولة بمقابل مغرٍ، وعندما فشل في ذلك طلب منه أن يلتزم الحياد، فلا ينتقد النظام ولا يدعمه، وزعم أنه تدخل لدى أحد أجهزة الدولة لإقناع مسئوليه بعدم إيذائه ومحاسبته على تصميماته.

 

لم يكتف الرجل بالترغيب بالأموال والمكانة فلجأ للترهيب أيضا لإجبار الرافضين أو المتحفظين على الانضمام إليه والقيام بالدور الذي يحدده لهم، والكارثة أنه كان يهددهم بالحبس ويستخدم في ذلك أسماء أجهزة سيادية هدد بها وتحدث باسمها وقال إن الأموال التي يستخدمها تلك هي أموالها، كما كان حديثه الأخير أمام الرئيس، وحديثه فوق منصة أحد مقرات القوات المسلحة، من الأسانيد التي استخدمها لإثبات قربه من الدولة.

 

مساندة الدولة/ النظام/ الحزب/ التيار الذي تراه معبرا عن أفكارك ليس عيبا، لكن العيب أن يتم ذلك باستخدام أموال لا يعرف أحد مصدرها، وهل هي من ضرائب الناس الذين يكافحون لمواجهة متطلبات الحياة، أم أنها من رجل أعمال لا يمكن أن يدفعها دون مقابل، وأن تُستخدم في ذلك أساليب غير أخلاقية كترويج الشائعات ونشر الأكاذيب على أنها حقائق وشن حملات مسعورة منظمة على كل من يحمل رأيا مخالفا، وما يضاعف الأمر سوءا أن يحدث ذلك باسم دولة يجب أن تكون أول من يحترم القانون، ومن إعلامي يتحدث في حضور الرئيس عن خطورة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في الإساءة للناس وسمعتهم وكرامتهم.

 

هذا ما يمكن الإفصاح عنه وما خفي كان أعظم، وقد يمس أجهزة تربينا منذ الصغر على تبجيلها وتقديس بطولاتها رغم إصرار بعض المنتسبين إليها والمتمحكين فيها على تشويه هذه الصورة، فسلسلة الأخطاء الساذجة التي ارتكبها إبراهيم الجارحي والتي حاول أن يسوقها جميعها على أنها لخدمة الدولة وبإرادة أجهزتها ودون أن يهتم حتى بأن يؤمّن محادثاته أبشع من أن تُصدق، ولا تمس شخوصها وحدهم بل تمس الدولة بمفهومها الواسع.

 

الأمر يتجاوز كثيرا إهدار ملايين الجنيهات على اللاشيء، وإدارة ملف "السوشيال ميديا" بشكل عصابي لا يليق أن يتم باسم الدولة، ويكشف أزمة المفاهيم التي تعاني منها دولة الرئيس السيسي، تعتقد أن الأزمة في أن معارضيها يسيطرون على مواقع التواصل الاجتماعي وأن الأمر يمكن أن يحله تجنيد كتيبتين للسيطرة عليها كما قال الرئيس من قبل نصًا، ولا تدرك أن معارضيها لا يسوّقون الفراغ، بل يسوّقون فشلا حقيقيا وأخطاء كارثية موجودة فعلا في كل المجالات، ولكي تضمن الدولة ألا يحدث ذلك عليها أن تعالج فشلها وتقلل أخطاءها، لا أن تحاول إثبات أن الفشل والأخطاء إنجازا.

 

فلتكف الدولة عن محاولة استنبات ذراع بدلا من التي قال الجارحي إنها مقطوعة، فليس من واجباتها أن تنشيء حسابات افتراضية تقول فيها نيابة عن الناس إن حياتهم أفضل، بل العمل على جعل حياتهم أفضل فعلا.

 

فلتكف الدولة عن محاولة استنبات ذراع بدلا من التي قال الجارحي إنها مقطوعة.

 

أخيرا:

المقال ليس موجها ضد شخص بعينه، لكنه ضد طريقة تفكير وضد أن تذوب الفوارق بين الحق والباطل والمقبول والعيب والوطنية والحقارة، وكون اسم أحد الأشخاص قد قيل صراحة فلأنه ظهر مؤخرا على السطح كنموذج لذلك واعترف بقيامه بهذا الدور محاولا إلباس ذلك ثوب الوطنية والبطولة، ثم إن كل سطر فيما سبق مدعوم بوثائق تؤكده وتؤكد ما هو أخطر منه، أتمنى ألا أضطر لنشرها.