الخوف من الخوف

الخوف من الخوف

تامر أبو عرب

تامر أبو عرب

18 نوفمبر 2016

 

(1)

"بقيت أخاف أمشي في الشارع، طول الوقت أبص يمين وشمال حاسس إن رصاصة هتيجي لي في أي وقت".

 

عظيم.. أنت الآن تملك شعبا خائفا، لكن هل تبنى الأوطان بالخوف؟ وهل يعصمها الخوف من السقوط؟!

 

قالها زميلي الصحفي الشاب عندما زارني في منزلي لأول مرة بعد إخلاء سبيله، كان قد تلقى تهديدات بالقتل أو العودة إلى السجن إن كان محظوظا لأنه كتب مقالين تحدث فيهما عن التعذيب الذي تعرض له أثناء حبسه احتياطيا بزعم انتمائه لحركة محظورة.

 

هذه الحركة كانت تجمع عددًا من النشطاء يطالبون الدولة بفتح المجال العام والإفراج عن المعتقلين السياسيين وإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية، هذه المطالبات اعتبرتها الدولة "إرهابا"، بينما تعتبر اختطاف صديقي وسجنه وتعذيبه إعمالا للقانون!

 

هو أصلا لجأ إلى كتابة المقالين كحل أخير، بعدما تقدم ببلاغات لجهات التحقيق والمؤسسات المعنية لإثبات تعرضه للتعذيب دون أن يسفر ذلك عن شيء أو يتعرض رجال الشرطة الذين اتهمهم بتعذيبه لأي مساءلة أو حتى تحقيق، أراد أن يثبت الحالة ويُخبر من هم في الخارج بما يحدث داخل مقار الاحتجاز الموحشة.

بعد الزيارة بأيام قُبض عليه من جديد، قضى شهورًا في الحبس الانفرادي، ساءت صحته وأصبح يعاني عدة أمراض وهو لم يبلغ الثلاثين بعد، وكان هذا درسا علّم صديقي الآخر ألا يكرر التجربة.

 

حاصرت الشرطة منزله كما تفعل مع القتلة وتجار المخدرات وروّعت أسرته وجيرانه، كل هذا لأنه كتب منشورا على صفحته الشخصية رأت الدولة أنه مهينا لشخص الرئيس، قضى فترة احتجاز قصيرة خرج بعدها على ذمة القضية، فشلت كل محاولاتي لإقناعه بنشر ما حدث معه في وسائل الإعلام أو حتى على مواقع التواصل الاجتماعي ليعرف الناس كيف أصبح التعبير عن الرأي تهمة في بلد قدم دماء المئات قربانا للحرية قبل أقل من 6 سنوات.

 

قال لي إنهم هددوه بالعودة إلى السجن إذا تحدث عن أي شيء يخص الشأن العام، كما أن أهله أجبروه على ترك السياسة نهائيا ليكف عنهم وعنه الأذى، لم أضغط عليه أكثر من ذلك، لم أشعر بغضب تجاهه أو تجاه أهله، لم يكن أمامي إلا أن أتفهم موقفه وأحترم اختياره، فلم أنفع صديقي الأول لأنفعه.

 

(2)

الخوف شعور إنساني طبيعي، لا يمكن أن تصادر على حق أحد في أن يخاف، خاصة إذا كان يعيش في دولة تستثمر في الخوف وتحكم بالتخويف، وإذا كان الثمن المُنتظر سيأتيه في أعز ما يملك، حريته أو حياته.

 

في الطريق إلى العمل كنت أمرُّ يوميا على أكثر من شارع وميدان، هنا سقط فلان قتيلا، هنا فقد فلان عينه، هنا جلست مع فلان المختفي قسريا منذ شهور، وهنا كنت أمشي لآخر مرة مع فلان قبل يُلقى في السجن لأنه حمل لافتة، وهنا ودّعت فلانًا الذي هاجر إلى الخارج قبل أن يحبسوه.

 

لا يمكن أن تصادر على حق أحد في أن يخاف، خاصة إذا كان يعيش في دولة تستثمر في الخوف وتحكم بالتخويف.

 

آلاف الأشخاص نُكّل بهم ليصيروا لمن خلفهم آية، آلاف الحالات تذكّرك بسوء خاتمة السير عكس اتجاه مواكب التهليل والمبايعة، وبمرور الوقت لا تصبح مضطرًا لاستدعاء أي سبب لتخاف، فالخوف يتحول إلى خيار بديهي ومنطقي في دولة خوف، غاية أمل كل فرد فيها ألا يكون القرد الأخير.

 

تقوم نظرية القرود الخمسة على إحضار خمسة قرود ووضعها في قفص وتعليق حزمة موز في المنتصف ووضع سلم تحتها، سريعا سيقرر أحد القرود ارتقاء السلم للوصول إلى الموز، وقبل أن يصل إليه يتم إطلاق رشاش من الماء البارد على القرود الأربعة الباقين. بعد قليل سيحاول قردٌ آخر اعتلاء نفس السلم وبمجرد قيامه بذك يتم رش الماء البارد مرة أخرى، وبالتكرار ستجد أنه ما أن يحاول أي قرد أن يصعد السلم للوصول إلى الموز ستمنعه المجموعة خوفاً من ألم الماء البارد.

 

بعدها يتم إخراج قرد من الخمسة من القفص ووضع قرد جديد لم يعاصر واقعة الماء البارد، سرعان ما سيذهب القرد الجديد إلى السلم لقطف الموز، وعندها ستهب مجموعة القرود لمهاجمته ومنعه وهو لا يفهم لماذا يفعلوا ذلك، لكن في كل الأحوال سيفهم أنه متى حاول قطف الموز سينال عقاباً قاسياً من أقرانه.

 

وبعد تكرار العملية أكثر من مرة سيتم استبدال كل المجموعة القديمة التي تعرضت لرش الماء بقرود جديدة، وسيستمرون في ضرب كل من يقترب من سُلم الموز، رغم أن جميعهم لا يعلمون لماذا يفعلون ذلك سوى أنهم خائفون من "شيء ما".

 

هنا أكثر القرود حظا هو من حضر واقعة رش المياه، لأنه على الأقل يعرف هذا "الشيء الما".

 

(3)

عظيم.. أنت الآن تملك شعبا خائفا، لكن هل تبنى الأوطان بالخوف؟ وهل يعصمها الخوف من السقوط؟!

 

في كتابه "جمهورية الخوف" الصادر عام 1989 يقول الكاتب والمعارض العراقي البارز كنعان مكية:

"تعلم العراقيون أن يخافوا صدام حسين، فاختار هؤلاء الأشخاص أن يحيطوا أنفسهم بصور صدام حسين في منازلهم وفي مكاتبهم، آملين بتلك الطريقة أن يدفعوا عن أنفسهم الشر، وهكذا بدأ كل شيء. فمتى توقف الأهل عن قول أشياء أمام أولادهم، وقاموا بتشجيعهم في حماسهم للقائد العظيم، ذلك الحماس الذي شربوه بالملعقة، تصبح الأشياء أقل وضوحا. لقد تم تحويل القوة الفجة المتسيدة فوق المجتمع المدني إلى نوع جديد من السلطة، نوع قادر على أن يحكم داخل نفس كل فرد. إنها تجعلهم يفعلون ويقولون ويبدأون في الاعتقاد بأن الأشياء ليست كما هي عليه في الحقيقة".

 

أصدر كنعان الكتاب باسم مستعار هو "سمير الخليل"، لأنه كان يخشى أن يأتيه أذى نظام صدام إلى حيث يقيم في بريطاينا، ورغم أنه لم يكن مسموحا بتداول الكتاب داخل العراق إلا أنه تم تداوله سرًا على نطاق واسع في كل المدن العراقية، وبعد صدور الطبعة الأولى بـ14 عاما كانت سياسات صدام قد جلبت احتلالا غير أخلاقي لبلاده، وكانت تماثيله تتهاوى في الشوارع وصوره تُنزع من المصالح الحكومية والبيوت وتلقى في سلال القمامة.

 

خلقت دولة الخوف التي أقامها صدام بالحديد والنار استقرارا زائفا ولُحمة شعبية مُصطنعة انهارت أمام أول اختبار جدي، وأول غياب لـ"مهيب الركن"، ولم يفلح الخوف الذي استثمر فيه في حماية العراق، كما لم ينجح حافظ الأسد ومن بعده بشار في صون سوريا بالسياسة نفسها.

 

كانت إدارات المدارس تُخرج الأطفال في مسيرات إجبارية ليهتفون "بالروح بالدم نفديك يا حافظ"، وبعد عدة سنوات تحوّل الهتاف إلى "بالروح بالدم نفديك يا بشار"، وبعد عدة سنوات أخرى فقد هؤلاء الأطفال الذين أصبحوا شبابا أرواحهم ودماءهم فعلا، ليس فداء لبشار بل في محاولة لإسقاط حكمه المجرم.

 

هكذا تشابهت أساليب كل المستبدين الذي حاولوا حكم بلادهم بالخوف في ليبيا وتونس واليمن والأرجنتين وروسيا وألمانيا وإيطاليا، وهكذا تشابهت نهاياتهم، لم ينجحوا في إقامة دولة رائدة وقائدة، وانتهى الأمر بسقوط مروع لهم وأحيانا طال السقوط أوطانهم معهم.

 

(5)

الآن هناك محاولة في مصر لاستنساخ تجارب ثبت فشلها.

 

يتم وضع الأساس لدولة خوف لم تثبت أركانها بعد لكنها تسعى لذلك بحماس، تنكل بالمعارضين، وتسيطر على الإعلام، وتلاحق الحقوقيين والنشطاء، وتتوسع في بناء السجون، وتحول المواطنين إلى جواسيس على بعضهم البعض في المقاهي والشوارع ووسائل المواصلات، وتجعل الاقتراب من شخص الرئيس جريمة وتنزهه عن أي خطأ أو تقصير.

 

لم يفلح الخوف الذي استثمر فيه في حماية العراق، كما لم ينجح حافظ الأسد ومن بعده بشار في صون سوريا بالسياسة نفسها.

 

الأزمة هنا ليست إن كان هذا النموذج في الحكم سينجح أم لا، ففشله حتمية تاريخية لم تسجل استثناءات، لكن الأزمة في الثمن الذي سيدفعه الوطن وناسه في سبيل إثبات المُثبت.