لا تضرب أمي.. رجاء

يوميات في الغربة 45

لا تضرب أمي.. رجاء

ليلى حلاوة

ليلى حلاوة

30 مارس 2015

سألتني ماذا تفعل؟ ولم يكن لدي أي فكرة عما تفعل؟ فالعلاقات الزوجية هي من أعقد العلاقات على وجه الأرض، فقد تنصح إحداهن نصيحة وفقا لما تقوله وتحكيه، ولكنها في قرارة نفسها تعرف أن هذه النصيحة غير مفيدة لها، ربما لها وجاهتها من الناحية النظرية ومن الناحية الأخرى التي لا تقف فيها هذه الزوجة، ولكن بالنسبة لكل زوجين، فلهما حياتهما ومشتركاتهما وخلافاتهما ولحظاتهما التي لا تعوض ولا تنسى من فرط حلاوتها، وكذلك لحظاتهما الأخرى التي أدعوها بـ"اللحظات الشيطانية" التي تتسائل في كثير من الأحيان كيف وأين بدأت وكيف انتهت على هذا النحو الذي يصعب الرجوع من عنده إلا بتنازل أحدهما عن شىء ما، يفقد خلاله شىء من نفسه ومن كرامته وربما من حبه.

قالت لي تلك السيدة، أنها سمعت إبنيها الصغيرين الذين لم يتخطى بعد عامهما السادس، سمعت أصغرهما يقول للآخر في همس: "لا تخرجي من الباب كما طلب منا والدنا، حتى لا يأتي ويضرب ماما!".

تقول الأم: نزلت عليه كلمات الصغير الهامسة كالصاعقة، ولم أدري ماذا أقول لهما.. هل أرد عليهما أوضح لهما أن هذا لا يحدث، فأبيكما لا يضربني حينما تفعلان شىء خاطىء، ولا يضربني في العموم أيضا، ففعل الضرب غير موجود أصلا. ولكنني آثرت الصمت، وأخذت أفكر في المعطيات التي جعلتهما يخافان من فعل شىء خاطىء حتى لا يضربني أبوهما.

تذكرت تلك اللحظات الشيطانية القليلة جدا بيني وبين أبيهما والتي تحدث غالبا أمامهما، فها هو يأتي من العمل متعبا منهكا بحاجة ماسة إلى الراحة، ولكنه يصر على فعل شىء ما، فلا يحب أن يأتي من الخارج ليرتاح مباشرة. ومع الإرهاق والشد العصبي، قد يغضب على زوجته لأي أمر تافه، ربما لأنها أصرت على أن يذهب الإبن إلى السرير في ميعاده، أو ربما لأنها لم تفعل شىء طلبه منها في الصباح، كلمة أمام كلمة وأخرى أمام أخرى، يتصاعد الموقف، وهنا تعرف من نظرات عينيه الغاضبة وأسفلهما المرهق أنه لن يسكت وأنه سيتمادى في تعليقاته الساخنه وربما في السب المباشر، حتى وإن سكتت هي.. لتهدأ عاصفته الجنونية.

اعتادت أن تترك المكان وتجلس في مكان آخر مستعيذة بالله من الشيطان الرجيم، ومع العنصر الأسري الجديد الذي أصبح يفهم جيدا وهم "الأطفال الصغار"، لم تعد تستطع أن تسكت حينما يطالها إهانة أو سبة، كانت تصمت قبلا ليتم الاعتذار لها لاحقا عما بدر في حقها، فهي تعرف أنها لحظة شيطانية لا تنفي أبدا كم الحب بينهما، ولكن أمام الأولاد فالأمر بالنسبة لها أصبح مغايرا ومختلفا.

هي تعرف أن زوجها رجل طيب ولا يُنقصها شىء من حبه أو حنانه أو أمواله، ولكن في تلك اللحظة لا تريد أن ينتقل إلى أولادها صورة ستظل معهم طوال حياتهم، (كم هي ضعيفة ومستكينة وتقبل بالإهانة في صمت).

بالتدريج، لم تعد تلك اللحظات الشيطانية تمر دون تصاعد، فلم تعد تأثر السلامة والتزام حدود الأدب، فلا تريد أن تخطىء بكلمة، ولكن بوجود الأطفال أصبحت ترد، حذرته مرارا: لا تخطىء في حقي ولا تهينني أمام أولادي لأنني لن أسكت بعد ذلك. ولكن لأن لكل طبيعة بشرية ثوابتها ولكل شخصية تكاتها، فهي تعرف أن تلك اللحظات ستظل موجودة، وفي تلك المرات التي لم تسكت ولم تذهب إلى مكان آخر، وردت فيها الكلمة بالكلمة والأخرى بأختها، وجدته يرفع يديه عليها أمامهم أيضا.

تذكرت كل هذا حينما سمعت صغيرها يقول لأخته: أخاف أن يضرب أبي ماما!". كم حرقتها الكلمة، وكم أهانتها، وكم تذكرتها في سرها وفي أول كل خلاف يتكرر بينهما، فكأنما هي تريد أن تصفعه على وجهه حتى يفيق الآن، وليس غدا، من نوبة غضبه الشيطانية المصاحبه لإرهاقه وقلقه الشديد.

فكرت فقط في طفليها، ماذا سيترك هذا داخل إبنتها الذكية، ماذا ستفعل مع زوجها حينما يهينها، هل ستفعل مثل أمها تسكت تارة وترد تارة وتترك المنزل تارة ثالثة.

سألتني هذه الزوجة.. ماذا تفعل؟ وحقيقة لم أعرف بما أنصحها، فربما هي بحاجة إلى جلسات طويلة مع زوجها ليتفقا على مبادىء الخلاف كما اتفقا من قبل على عقد الزواج.  

ولكن قصتها ذكرتني بقصة زميلة سابقة حكت لي قصة تمرد إبنتها عليها منذ ما يقرب من الخمسة أعوام، قالت لي أن إبنتها لا تحترمها ولا تسمع كلامها، وأحيانا كثيرة تقول لها بعنف وقسوة ومزيج من قلة التربية والأدب: "إن لم تسكتي فسأطلب من بابا أن يطردك".. سألتها بدوري: وهل الأب يفعل هذا بالفعل كي تتجرأ الإبنة عليك وتقول لك ذلك؟

كانت الكارثة الكبرى أنها أجابت بنعم، فثارت كل علامات الاستفهام والتعجب على وجهي، فاستدركت قائلة: أبوها يعمل ضابطا، ويغيب جٌل الوقت عن المنزل، وحينما يأتي لا يكون أمامه سوى تدليلها هي وأختها، ولا يكون في مقدوره سوى الانصياع لكل طلباتهما، وإذا اعترضت، يقول لي أمامهم: إذا لم يعجبك ما نفعله فلتتركي المنزل" يقولها بنوع من الضحك، ولكن الإبنة الكبرى فهمت أنه جد، وأصبح كلما ضايقتها تذكرني بكلمة أبيها، وأن أبيها سيأتي ليلقى بها من الباب.

كان ردي الوحيد عليها.. وهل لا تدركين حقا ما سبب عدم احترام إبنتك لك؟.. وهل لا تدركين سبب عدم إنصياعها لطلباتك كأم تريدين تربيتها وتهذيبها؟!.

ثم كان تساؤلي بيني وبين نفسي.. كيف لأم متعلمة ومثقفة ومهذبة وكان واضحا جدا أنها "بنت ناس".. كيف لها أن تسمح بهذه المهزلة.. وكيف لها لا تعرف تأثير هذا العبث على بناتها.. وأي بنات ستخرجهم إلى المجتمع بهذا السلوك السيء الغير محترم لأجل الناس على الأرض وهي "الأم"، وذلك برعاية الأب الهمام الذي يهدد بطرد الأم كلما اختلفت مع صغيرتها أمامه.

وهذا يحيلني مرة أخرى للأم الأولى التي لم أعرف بما أنصحها، فقد قررت عدم قبول الإهانة أمام أولادها مهما حدث والنتيجة أن الموضوع وصل للضرب وترك البيت وبكاء الأبناء وخوفهم الشديد من فقد أمهم حينما تترك المنزل تاركة كل شىء وراءها، آخذة معها فقط تلك الدموع الحارة والحارقة وتلك الكسرة أيضا.

ربما يفسر هذا قول الصغير أنه لا يريد أن يغضب الأب حتى لا يضرب الأم، فقد فهم لتوه المعادلة الأولى والنتيجة الأولى في حياته العملية، فإذا فعل شىء خطأ سيغضب الأب، والأب سيضرب الأم، وربما يتطاول الأمر وتترك الأم المنزل، وهذا ما لا يريده الصغير أبدا!!!.

هل يدرك الآباء.. كم العبث والقهر الذي يتسبب به حينما يعلي من شأن الإبن على حساب الأم، أو حينما يهدد الأم أمام الإبن، أو حينما ينفذ كلمة الإبن وطلبه ضاربا عرض الحائط برأي الأم. فليختلفا ولكن ليس أمام الأبناء، ولينفذ للأم كلمتها أمام الإبن وليقل لها لاحقا ماذا يريد وماذا يجب أن يفعل، فليطلب من الإبن أن يدخل غرفته حتى يتفق مع الأم على أمر وسط أو أي أمر، وبعدها يقول للإبن بشكل صريح: "اتفقنا أنا ووالدتك أننا سنفعل كذا". هكذا يجب أن يدير الآباء خلافاتهم أمام الأبناء.