الطفلة الخائفة  من الشرطي

يوميات في الغربة 46

الطفلة الخائفة من الشرطي

ليلى حلاوة

ليلى حلاوة

05 أبريل 2015

هل تعبت من السياسة؟ هل أصبحت جزعا؟ هل مللت من المتابعة ومحاولة الفهم؟ هل تستطيع أن تقول بملء فمك أنك تفهم ما يجري؟

عن نفسي توقفت عن متابعة أي شىء إلا بالصدفة وعدا بعض الأخبار القليلة.. ليس لدي رؤية عامة ولا أريد أن أعرف.. ولكن بعض المشاهد التي تصادفني بشكل شخصي وتؤثر في كثيرا، قد تلخص لدي كل ما حدث وكل ما يحدث.

قالت لي الجارة السورية الودودة جدا، والتي تقارب على الستين من عمرها.. لدي إبنتان وكنت أقوم بإدارة مصنع صغير لصناعة الكليم.. ولدي عدد من العمال الذين يفتحون بيوتا بها كثير من الأفراد، ولكنني اضطررت لغلق المصنع مع بداية الثورة السورية ومع بداية القتل، فقعد العمال في بيوتهم، ولكن الحقيقة أنه قد مات منهم سبعة عشر وكانوا ثلاث وعشرون عاملا، ولا أعرف عن أسرهم شىء.

تستطرد قائلة: ما جعلني أغادر سوريا مسرعة وتاركة كل شىء ورائي حتى عقود ملكية منزلي ومصنعي حادثة مروعة مازلت لا أنام بسببها، فكنت وإبنتي الصغرى في سيارتنا التي يسوقها لنا أحد الشباب الطيبين ممن يعملون لدي، وكان يعول عدد من الأخوات البنات إضافة إلى أمه، لم يقترف ذنبا في حياته، دائما يسير جانب الحيط نظرا لكم المسئوليات على عاتقه فقد كان الولد الوحيد، كنا على الطريق مساء وفجأة أوقفنا عدد من جنود بشار، وطلبوا من السائق أن ينزل من السيارة ويسير إلى الأمام ولا ينظر خلفه، وقد فعل الشاب ما طلبوه منه بالضبط آملا ألا يحدث شىء، إلا أنهم وببساطة شديدة ضربوا الرصاص عليه من الخلف فوقع متوفيا في الحال.

تستطرد السيدة قائلة: كانت أول حادثة نراها أنا وإبنتي الصغرى أمامنا مباشرة، جعلت إبنتي تغمض عينيها وأنا لم أستطع، كما لم أستطع أيضا أن أنطق خوفا بفعل المثل معنا، ولكن نجانا الله تعالى بفضله.. بعدها عرفت إبنتي المتزوجة في الخارج بما حدث لنا فأرسلت لتأخذنا خلال ثلاثة أيام..

تقول السيدة.. تركت كل شىء ووضعت كل أوراقي الهامة داخل مصنعي الذي اعتقدت أنه في مأمن.. ولكن ما عرفته بعد ذلك أنهم قصفوا كل شىء وانهدم المصنع الذي ربيت منه بناتي ولا حول ولا قوة إلا بالله.

تقول السيدة: لا يمر يوم دون أن أحلم بهذا الشاب الذي قتلوه غدارا، وأصحو من النوم على صوت صراخي.

بالرغم من حكاية السيدة التي مر عليها أكثر من نصف عام، إلا أنني تذكرتها حينما شاهدت هذا الفيديو على موقع اليوتيوب بعنوان "طفلة سورية تبكي في تركيا بسبب الشرطة".

وكان قد وصلني مع تعليق عليه "شاهد ردة فعل طفلة لاجئة سورية "عائشة" عمرها 5 سنوات تبيع مناديل في شوارع تركيا، عندما رأت شرطي يقترب منها وهي تتشبث بالمارة خوفاً منه.. سلوك يبرز الخلفية النفسية لأطفال سوريا تجاه "اللباس العسكري".

تبكي الطفلة بحرقة حينما اقترب منها رجل الشرطة الذي أراد حمايتها من خطر زحام السيارات وكانت تقف وحدها تبيع المناديل، وتحاول أن تتشبث بالمارة ليحموها من هذا الرجل الذي يرتدي هذا اللباس المخيف. لا يفهم أحد لماذا تبكي الطفلة، وبالرغم من محاولة اقتراب الضابط منها في ود وحب شديدين محاولا المسح على رأسها تارة واحتضانها وتهدئة روعها تارة أخرى. إلا أن الطفلة تأبى وأن تهدأ. حتى فهم البعض سبب فزعها الشديد فأبعد الشرطي عنها وأخذها بين ذراعيه كأنه يخبئها منه فهدأت الطفلة، ومازالت تنظر خلفها خوفا من أن يحضر الشرطي مرة أخرى.

من يشاهد الطفلة وفزعها، لا يشك في أنها قد تكون مرت بذات الحادثة التي مرت بها السيدة الخمسينية أعلاه، فالطفل قد يتأثر كثيرا بما يسمعه، ولكنه لا يعطي ردود أفعال كهذه إلا بعد أن يكون قد رأى شيئا بأم عينيه.

السؤال الآن: ترى ما هذا الشىء أو هذا الفعل الذي قد ينزع هذا الخوف والروع من مخ وقلب هذه الطفلة الصغيرة وأمثالها من ملايين الأطفال على مستوى دول العالم العربي أجمع.

يسألني ابني الصغير: هل الشرطي طيب أم أنه شرير.. فأقول له إنه يحمي الناس من المجرمين ومن الأشرار، فيرد قائلا: إذا هذا الرجل الذي يجره الشرطي والذي رأيته في التلفزيون هو رجل شرير، فيأتي دور الصمت، فالأخبار لم تعد تأتي برجال شريرون يقبض عليهم رجال الشرطة..!! كما أن الحاصلين على براءات كثيرة في مهرجان البراءة للجميع ليسوا من الناس الطيبين. ولكنهم هم مجرمون تسببوا في أذى كبير لشعوب أعدادها بالملايين. وليس آخرها صاحب عبارة السلام المصري الذي توفي غرقا على متن عبارته المنتهية الصلاحية أكثر من 1000 مصري.

رجوعا لعالم الأطفال.. كيف نسكت أسألتهم الكثيرة والكبيرة في ذات الوقت.. وماذا نقول لهم عن هذا الشرطي الطيب الذي كان موجودا من قبل.. وكيف يكتشفون ويفرقون بين الشرطي الطيب والآخر الشرير.