لماذا أخاف جدا هذه المرة؟!

يوميات في الغربة 47

لماذا أخاف جدا هذه المرة؟!

ليلى حلاوة

ليلى حلاوة

28 أبريل 2015

أتذكر في المرة الأولى حينما ذهبت إلى غرفة العمليات بمحض إرادتي سعيدة وغير آبهة بأي شىء سوى أنني سأرى أخيرا هذه النونو الصغيرة التي تتشقلب في بطني ليل نهار، دخلت الغرفة مبتسمة واستلقيت وبدأ الطبيب في سؤالي: ما اسمك.. فأجبت ضاحكة:ليلى، ثم سألني هل تعرفين نوع الجنين: قلت له نعم بنت وسأسميها "ملك" ثم غبت عن الوعي واستفقت لا أرى سوى هذا الوجه البشوش بجواري، أتذكر أنني أخذت أنظر إليها وأقول لأبيها وجدتها "إنها جميلة جدا"، فترد أمي قائلة: تشبهك كثيرا وهي صغيرة. فأضحك منها فمن سيشهد للعروسة كما يقولون.. أتذكر أنني نسيت كل الآلام قبل الولادة فقد تعذبت ككل أم تخوض هذه التجربة برضا تام، فهو الألم الذي تقبل عليه متقبلا إياه غير محاولا الهرب منه، فبعده سيأتي الفرج وستلتقي بوجه وددت كثيرا لو تراه وتعرف شكله ولونه وملامحه.. أتذكر أنني كنت أفتح دولاب الملابس وأنظر إلى ملابسها الصغيرة وألمسها وأحيانا أحتضنها في خفاء وخجل وأتحدث معها قائلة: ألم يأن الآوان أن تأتي بعد.. لقد اشتقت إليك.. وقد اختار الله أن نراها في الرابع من نوفمبر 2007.. وها هي نعمة الإبنة المجتهدة الطيبة الرقيقة الجميلة.

 

في المرة الثانية.. لم يكن هناك انتظار فقد حدٌد لي موعد الولادة ليكون في الخامس من شهر مايو 2010، ذهبت بمحض إرادتي إلى غرفة العمليات أيضا، ولكنني لن أنسى أنني كنت ذاهبة إلى هناك بدموع كثيرة في عيني.. ربما كان توتر وخوف وعدم استقرار نفسي.. ولكن حينما سألني الطبيب هذه المرة أيضا عن اسمي ضحكت بصوت عال.. قلت له اسمي: ليلى، واستطردت قائلة.. هل تسألون في كل مرة عن اسم الضحية قبل أن يذهب إلى حيث لا شىء.. فكم تسائلت أين نذهب خلال هذه اللحظات التي يقطعون فيها أجسادنا بمشرط ومقصات حادة جدا ويخيطونها بعناية وأحيانا بلامبالاة.. ثم تفيق على أثر آلام بسيطة مرة وحادة مرة أخرى.. وها قد أتت المرة حيث الآلام الحادة، فلم أستطع رفع عيني لأرى وجه هذا الطبيب الذي أخذ في الضغط على بطني ليعذبني بشدة من كثرة الألم، كل ما أستطعت أن أراه هو هذا البالطو الأبيض والجسد النحيف، أما الوجه فلم أراه ولن أعرفه أبدا، كل ما أتذكره هو بالطو أبيض وألم في غاية الألم. استعنت في هذه اللحظة بما تبقى لدي من صوت، وقلت بصوت ضعيف مستغيث: أشعر بألم شديد في بطني.. رجاء اعطوني مسكنا للألم، ولكن لا مجيب وكأنني شىء ما ملقى على سرير له رقم في غرفة بدورها لها اسم، وقد كان اسمها "غرفة الاستفاقة".. كنت على أحد هذه الأسرة التي كانت فوق بعضها بعضا، وقد رأيت عليها نساء كثيرات مستلقيات غير مستفيقات ملقيات كأنهن بلا حياة.. نظرت إليهن نظرة خاطفة قبل دخولي إلى المكان الذي خرجن منه منذ قليل..

 

استفقت من غفوتي التي لا أعرف أين ذهبت خلالها على هذا الألم وهذه اليد التي كانت تضغط على بطني المجروحة والمخيطة للتو، فربما كانت تعتبرني مازلت غائبة، محاولة التخلص من بقايا دماء أثر ولادة لطفل جميل.. كان جميلا منذ لحظته الأولى وحتى لحظتنا الحالية.. طفل جميل الداخل والخارج.. أنظر إليه أحيانا ولا أعرف كيف أتاني هذا الصبي رائع القلب والعقل معا، ولا يمنعني هذا من مناداته ضاحكة في أحيان كثيرة "أيها المزعج الصغير".

في المرة البين بين والتي اضطررت فيها إلى الولوج إلى غرفة العمليات في الغربة، لم أكن أعرف أنني سأدخل وكلي يبكي، عيني وقلبي وعقلي وجميع جوارحي.. صممت على الحديث تليفونيا مع ولدي قبل الدخول مباشرة وقد أمسكت دموعي غصبا عني حتى لا ينالهما شيئا من ضعفي، إلا أنني دخلت الغرفة متمنية أن أخرج منها على خير، وكان فضل الله علي، أتذكر لحظات خروجي جيدا حينما كنت مازلت في مراحل استفاقتي الأولى وكنت على ما أظن أقول كلاما غير واعيا وهامسا، وكنت الجملة التي كثر ترديدها على لساني كما قيل لي "لا أريد العيش في هذا العالم"، كما أنني سألت الممرضة التي كانت تجر سريري من غرفة العمليات إلى الغرفة حيث سأتعافى، سألتها بدوري ما اسمك فقالته لي ولا أتذكره، ولكنني شكرتها بشدة، فقد كانت تنتظرني حتى استفيق وتنظر إلى عيني باسمة مطمئنة إياي أنني بخير، يالها من لحظة تخرج فيها من لا شىء إلى حياة لا تتذكرها بكامل قواك العقلية، أخذت أقول لها شكرا شكرا محاولة الابتسامة في وجهها. ثم تلقاني حبيبي ليقول لي في لهفة: حمدالله على السلامة، هل وصلتك رسالتي.. لقد أرسلت لك رسالة وأنت بالداخل لأقول لك أن الطبيبة خرجت وطمئنتني عليك وأنك بخير.. الحمد لله.

لا أعرف كيف توقع زوجي أنني بالداخل في حال يسمح باستقبال رسائل أو أنني حتى مستفيقة، فضلا عن أنني تركت تليفوني بجواره في الغرفه حيث كان ينتظرني.. كان موقفا مربكا، وقد شرحت له حينما نظرت إلى وجهه وأدركت أنه جادا فيما يقول أنني تركت تليفوني المحمول معه حيث أنني كنت متجهة إلى غرفة العمليات على ما أذكر.

نأتي للحظة الحالية، حيث لا أريد الدخول أصلا إلى غرفة العمليات، أو أنني أريد أن استلم مولودي الجديد دون اضطرار للذهاب إلى المكان حيث اللاشىء، لا أريد أن أغيب فأظل غائبة.. تذكرت صديقتي التي ترفض الغياب الكلي أثناء دخولها غرف العمليات، فهي تتفق مع الطبيب على "تغييب نصفها فقط" فتظل صاحية وواعية بعد أن يغرزوا في عمودها الفقري إبرة لا حد لألمها، ولكنه ألم لا يتفوق أبدا على ألم الخوف من الغياب الكلي، كنت أضحك وأتعجب من أمرها وهي تبرر لجوئها لهذا القرار من كونها تخاف أن تذهب فلا تعود.

سألت نفسي مرارا وتكرارا: لماذا هذه المرة بالذات تختلف كثيرا عن المرة الأولى حيث كانت شجاعتي وعدم خوفي وابتسامتي وتفاؤلي هم جميعا أسياد الموقف.

لاكتشف أنني قد كبرت عمرا، فربما كلما كبرنا أصبح خوفنا أكبر مثل عمرنا، ربما لأنني ارتبطت بهذين الصغيرين الذين لا حول لهما ولا قوة، فالحقيقة أنني أريد مجاورتهما دائما وأبدا، ولا أريدهما يغيبان عن ناظري، أريد أن أراهما عروسا وعروسة في أبهى حلة وكل السعادة تحيطهما وتبهجهما.. وربما لأنه لم يعد هناك مكان لشجاعة في مواجهة شىء لا تعرفه، فالكل أصبح يعرف أن السوء هو سيد جميع المواقف الآن.

وهنا لمحت أيضا معنى أن يكون جميع شهداء ثورتنا العظيمة من الشباب، فكلهم صغار السن، لم نرى بينهم بالخطأ عجوزا أو كبيرا أو واحدا ممن تخطوا سن اليأس، هؤلاء الذين أخذوا يصرون ويدفعون الأبناء للابتعاد عن سكة الثورة واعتبارها سكة الندامة وسكة الـ "يروح مايرجعشي"، هل لأنهم كبروا عمرا ولا يريدون للحياة سوى أن تستمر بعبلها وعبطها وسخفها، فالديمومة والاستمرار في شىء وإن كان خطأ وإن كان مرا وإن كان علقما، هو أفضل من الذهاب إلى اللامكان أو إلى مجهول لا نعرفه أو إلى أمر غير مدروسة نتائجه.

أسأل نفسي مستنكرة على نفسي: هل تراني سأصل إلى هذه المرحلة التي أخاف فيها التغيير حد نكران كل شىء لا لشىء سوى الاستمرار وإن كان استمرارا في العبث.

ولكن ما المانع أن أضرب بخوفي عرض الحائط ولأقبل هذه المرة أيضا مثلما كانت المرة الأولى برضا وحب وغير خوف وابتسامة على الدخول في عالم اللاشىء وليقدر الله لنا أمرا كان مفعولا.