عن الشوفينية المصرية

عن الشوفينية المصرية

خديجة جعفر

خديجة جعفر

18 يوليو 2017

 

يظنّ كثير من المصريين أنّ المصري عبقري بطبعه، أو عاطفي بطبعه، أو طيب بطبعه، أو مرح ذو نكتة بطبعه! بل يمضي المصريون إلى أبعد من ذلك فيخلعون على أنفسهم صفات التفوق والذكاء والتميز التي منّ الله عليهم بها مباشرة دون بقية البشر، بل وخصّهم بها دون غيرهم!  فيكفي أن تولد على أرض مصر، أو أن يكون أحد أبويك مصريًّا، لتشرب من نيلها الساحر وتكون متفوقًا متميزًا بالفطرة. ولم لا، وقد ذكر الله مصر في القرآن الكريم غير ذات مرّة "... وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ..." 12/99 وذكر من أراضيها سيناء كذلك ! "... وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء... " 23/ 20 ثمّ بالغ المصريون في الاعتزاز بمصريتهم، والإيمان بذواتهم حتّى عُرفوا بالتعصب القومي، وهي النزعة التي تسمّى الشوفينية chauvinism.

 

فما جذور اعتقاد المصريين بتفوقهم الفطري هذا؟ وما سر إيمانهم بطيبة قلبهم وعاطفتهم التي لا تهوّن من شأن عقلهم أبدا فهم كذلك أذكياء بالفطرة؟ وهل هذا الاعتقاد صحيح؟ وما أصل هذا الاعتقاد؟

 

في الحقيقة، ليس المصريون فقط من يعتقدون في أنفسهم التفوق والتميز، فقد سبقتهم في هذا الاعتقاد أمم. فمن قبلُ، ظنّ اليهود أنهم شعب الله المختار! واعتقد الألمان أنّهم أصحاب الدم الأزرق، وبالغ البريطانيون في قوتهم، التي جعلت إمبراطوريتهم لا تغيب عنها الشمس. فما جذور هذا المفهوم القومي الذي يقسّم النّاس شعوبًا وقبائل لتتنافر لا لتتعارف؟

 

يقع مفهوم (الشخصية المصرية) في إطار أعمّ هو مفهوم (الشخصية القومية) أو (الهوية القومية) التي تعرّف بأنّها الخصائص النفسية والسلوكية التي تميز أبناء قومية عن أبناء قومية أخرى، والتي تتميز بدرجة ما من الثبات الناشئ عن المرحلة التاريخية التي تمر بها الجماعة القومية.

 

وقد برز الاهتمام بدراسات الشخصية القومية في القرن التاسع عشر، الذي كان يعبّر عن هذا المفهوم بكلمات أخرى من مثل (الجنس) و(العبقرية) و(الروح) و(العقلية). وإنّ هذا الموضوع يعود في جذوره إلى أطروحة اللامساواة بين الأجناس، التي ادّعاها الكونت جوبينيو (1816- 1882) ثمّ نوّع عليها إرنست رينان (1823-1892) صاحب أطروحة تفوق العقلية الآريّة على العقليّة الساميّة. سادت فكرة الهوية القومية في القرن التاسع عشر، فأصبح بالوسع أن يتكلم مثقفوه ومفكروه عن القومية الألمانية، والقومية البريطانية، والقومية الفرنسية، والقومية الأسبانية، بل وأصبح في وسعهم أن يدّعوا تفوق قوميَّات وأجناس على قوميَّات وأجناس أخرى. وحين انتهى القرن التاسع عشر باستعمار معظم بلدان الشرق الأقصى والشرق الأوسط، كان هذا المفهوم قد أصبح ظهيرًا فكريًّا قويًّا سوّغ لقادة حروب ذلك القرن اغتصاب بلدان شعوب هي أدنى في الروح أو العقلية في نظر المستعمر المتفوق. وبعد جلاء الاستعمار عن البلدان العربية مع منتصف القرن العشرين، كانت جرثومة الهوية القومية قد زرعت في كثير من البلدان، فأصبحنا نجد من يميزون القومية المصرية عن الشامية عن المغربية عن غيرها. ثم برزت الدعوة إلى فكرة القومية العربية التي أسّست للدعوة للوحدة العربية في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين.  

 

ولقد طوّر التراكم العلمي في موضوع الهوية القومية، العلم الذي سُمّي فيما بعد (علم النفس الاجتماعي( social psychology   والذي أصبحت دراسات الشخصية Personality studies من اهتماماته. كما أنّ دراسة موضوع الشخصية القومية من منظور علم التاريخ الاجتماعي، يعين كثيرًا على فهم جذور الخصائص السلوكية والنفسية التي تميز أبناء قومية معيّنة، بل ويضع هذا المنظور الخصائص المميزة للقومية في سياقها التاريخي الاجتماعي، الذي يفسر بوضوح البيئة والعوامل التي ساعدت على تكريس خصائص بعينها، سواء أكانت إيجابيّة أم سلبيّة، وكيف ساعد هذا السياق الاجتماعي التاريخي على استمرار تلك الخصائص وتكريسها.

 

إنّ الهوية القومية ليست مفهومًا ميتافيزيقيًّا ثابتًا لا يمكن تغييره، وليست نعمة من الله يمن بها على من يشاء من أقوام، فيرفع أقوام ويخفض أقوام، دون تفاضل على أساس العمل. ولكنّ الثبات الذي يبدو على الأنماط السلوكية والنفسية والقومية للشخصية القومية هو ثبات نسبي، يستمر عبر أجيال متتالية نتيجة التنشئة على مفاهيم وسلوكيات بعينها، يورثها الآباء إلى الأبناء والأحفاد، فتستمر الخصائص في الوجود؛ فإذا انحرفت مفاهيم التنشئة لأي سبب، أصاب التغير هذه الشخصية القومية، وأصبح من الممكن تعديل أخلاقها سلبًا أو إيجابًا. وهذا التفسير المقابل للتفسير الميتافيزيقي هو ما يمكن أن نسميه المنظور الاجتماعي التاريخي الذي يدرس الشخصية القومية في سياقها التاريخي، ويحفر تحت الأخلاق المتأصلة، ليعرف ويفهم سبب ظهورها ثم تأصلها عبر الزمن؛ حتّى يظنّ الفرد المنتمي إلى هذه القومية المعينة أنّ أخلاقه هذه ثابتة لا تتغير.