عن بهاء طاهر والمسافة بين المكتبة والمطبخ !

عن بهاء طاهر والمسافة بين المكتبة والمطبخ !

منى النمورى

منى النمورى

11 يوليو 2016

لا أدرى كٌنه الرغبة الملحة فى الأيام الأخيرة لأن أعود لقراءة الرواية بشغف. ربما هو بعض من متسع فى الوقت توفر أو رغبة فى فهم العالم، فلازلنا نهرب للقصص من عالمنا لنفهم ونجد القصص قد أذابتنا فى عوالمها ثم أنزلتنا مرة أخرى فى عالمنا الحالى لكن فى نقطة مختلفة. وقفت طويلا أمام أرفف المكتبة ومددت يدى وسحبت واحة الغروب لبهاء طاهر. كنت قد أبقيت الأمر سراً انى لم أقرا له حتى هذه اللحظة. ربما كان خوفاً دفينا من الألم يبعدنى عنه. ولا أفهم ما الذى تغير حتى أتجرأ الآن. لايمكن بحال أن نفهم كل ما يحركنا.


واحة الغروب حكاية محمود عبد الظاهر ظابط فى الداخلية المصرية وقت احتلال الإنجليز لمصر، يكتشف جٌبنه الشخصى يوم ضرب طوابى الأسكندرية من سفن الانجليز فى البحر فيقف فى نقطة وسطية يقدم فيها ما يقدر عليه للجرحى دون أن يعرض نفسه للهلاك فى الصفوف الأمامية. ينتهى اليوم وقد جٌرح بلا داعِ فى معركة جانبية فى المدينة التى سادتها الفوضى، ويعود لعمله فى نظارة الداخلية الموالية للخديوى والانجليز ليجد نفسه معاقباً على تركه الخدمة يومين كاملين و مساعدته للعصاة من جيش عرابى ليعرف وقتها معنى الخيانة فى زملائه، بعد أن رآها فى حاكم بلاده الذى سمح بالاحتلال وبعد عن عرفها فى نفسه.  يعيش بعد هذا على مستويين من الوعى، مستوى يقتنع فيه أنه ضحية مظلومة وبطل، ومستوى يعرف فيه أنه جبان، وقف فى منتصف الطريق فلا اختار أن يساند عرابى كما يجب ولا يعود لعمل فى وزارة تناويء سلطة خائنة، ولا اختار مصلحته وسبح مع التيار الفائز، يعرف فى المستوى الثانى أيضاً أنه جبٌن حين لم يتشبث بالحب الوحيد الحقيقى فى حياته لأنه أضعف من أن يتزوج بجاريته.

 
أغوص فى نفسى.كم من الاختيارات الصحيحة وقف جٌبنى الشخصى أمامها مثلما فعل محمود؟ هل الجٌبن جين وراثى مفروض علينا أم أحد مكونات الشخصية التى تتأثر بالوراثة والبيئة معا؟ هل اختياراتى كإمرأة كانت أوسع أم أضيق من رجل فى مثل ظروفى؟ تقف الشخصيات فى الروايات الجيدة وكأنها مرايات وقد يدهشك ماترى!


مغضوبٌ عليه من رؤسائه، يرسلون بمحمود مأموراً لواحة سيوة التى اشتهرت وقتها بالقلاقل والعنف ورفض أهلها للسلطة المصرية التى ترهقهم بالضرائب دون أن يعرفوا عن عاداتهم ولا تقاليدهم شيئاً. فى الواحة يكتشف محمود أنه كممثل للقوة الغاشمة لايختلف كثيراً عن الانجليز الذين يحتلون بلاده ويستغلونها دون أن يفهموا شيئاً عنها ودون أن يعتبروا أهلها ناساً، يرهقه الماضى مثلما يقهره الواقع المرير والذى تتقاطع فيه رغبة زوجته البريطانية الجنسية الأيرلندية الأصل مع عمله، فبحثها الدائم فى كتب التاريخ والآثار وفى معابد الواحة المختلفة عن قبر الاسكندر الأكبر الفاتح الأعظم والغازى الأكبر يؤلب عليه الواحة كلها.وتدخلهما معاً عن جهل فى مصير الأرملة السيوية مليكة، التى يدعونها فى الواحة "الغولة" والتى تٌقتل بقسوة لتجنب خراب الواحة كلها يجعل الأيدى ملطخة بدماء لا تٌغتفر. وينتهى الأمر بالمأمور محمود منتحراً بتفجير نفسه داخل معبد آمون.


هل نعرف حقاً عن بعضنا البعض ما يكفى للقبول؟ هل يعرف النساء عن الرجال؟ هل يعرف الرجال عن النساء؟ هل يفكر أى منا بتأنِ فى الأحكام التى يصدرها عمن حوله؟ كم من المرات نسمح للعقل الجمعى الغوغائى أن يقودنا للهلاك ولا نهدأ حتى تٌراق دماء؟ فقدت قدرتى على حصر حوادث العنف والتفجير، صار الأمر اعتياديا يأتيك فى المواقع جنباً الى جنب مع أخبار مشاهير السينما والرياضة!


فى سطور تخفى فى بطونها أكثر مما تكشف من قسوة ومرار يستعرض طاهر ضرب الأسكندرية، آلاف الفقراء النازحين، آلاف الساقطين أمام المدافع او تحت الأقدام أو كضحايا للفوضى والنهب والفرص المتاحة للأخذ بالثأر، الباشوات والأعيان و الأسرة الحاكمة يقدمون ولائهم للغزاة، وقت عصيب تظهر فيه كل الاختيارات جلية فى لحظة خاطفة، ثم ينتحر الوضوح تحت أقدام الكذب والتدليس وقلب الحقائق لنجد العدو فى ثياب الصديق والوطنى فى ثياب العاصى والخائن فى ثياب الجهادى وتطحن عجلة الحياة اليومية الجميع وينسى الناس أو يتناسون ويصمت من يصمت عن حزن مرير يتحول مع الأيام إلى عبء ثقيل تتمازج تفاصيله وتنطمس حتى تختفى معالمه الأساسية.


أين التاريخ من هذا؟ ولماذا أٌلغى الاحتلال بعيد الجلاء يوم 18 يونيو 1956 والذى كان المصريون يحتفلون فيه بجلاء الانجليز عن مصر؟ صارت الجيال اجديدة شبة جاهلة بهذه الحقبة من تاريخ مصر. هل ينتهى أبداً احتلال مصر؟ فى رواية الحياة فى مصر التى نعيشها الآن ما الذى يجب أن تفعله الشخصيات؟ من يكتبنى؟ كيف أكتبنى؟


يرسم لنا طاهر مستويات عدة من الاحتلال الانسانى فى هذه الرواية، ربما لا ندركها مباشرة  لكنها تفرش نفسها أمامنا بعد نهاية الرواية مثل دوائر متعاقبة، احتلال الانجليز لمصر،  ما يمكن تسميته باحتلال المصريين لسيوة، احتلال محمود لجسد جاريته، احتلالها لذاكرته، احتلال الخرافات للعقل الجمعى فى الواحة. احتلال الاسكندر لكل العالم فى ازمان سحيقة ، ثغرات الظلم والقسوة بين كل دائرة وأختها وفى الخلفية جموع البشر الذين تتغير حيواتهم أو تنتهى مع كل هذا والأهم كيف تعيد الدوائر نفسها فى كل عصر جديد، وكيف تنقلب الحقائق مثل مبان على رؤوس الناس، فإما يقبلونها لتستمر الحياة أو يعاندونها فى لحظة تومض فيها الحياة مثل كريستالة فى الضوء ثم تنتهى.


لا تتسم قصص حيواتنا بنفس الوضوح ولا الكثافة التى نجدها فى الروايات. تهلكنا التفاصيل الصغيرة مثلما تحيينا، نحتل فضاءً افتراضياً يبتلع غضبنا ومعها ارادتنا ولانموت حتى بالطرق الرومانسية ذاتها، بل نموت غالباً مثل المجاميع فى معظم الروايات، منسيين!


أعيد الكتاب بتأنِ الى المكتبة. يبدو أثقل من وزنه الأصلى بعد أن أصبحت انا أيضاً بداخله. وأحدق طويلاً فى منتصف الطريق ما بين المكتبة والمطبخ.