
حديقة سرية

منى النمورى
07 سبتمبر 2016طريق ترابى متعرج وسط البيوت ملئ بالحفر يؤدى إلى المقابر، "التُرَب" كما يعرفها الناس في يلدتى، فهى من التراب ويدفن بها الناس ويٌهال عليهم التراب ليتحولوا مع الوقت إلى تراب.
قديمًا كانت هذه البقعة نائية وبعيدة عن البلدة، كًبٌرت البلدة وزاحم الأحياء الأموات في "تٌربهم" وإمتد العمران وحاصر الأحياء الأموات، لايَحٌد لعب الأطفال حد، ولا ضير من إمتداده عند "التٌرب" وقد يجد الطفل نفسه وهو يلعب محملا بالقرص على أرواح الأموات ويزيد الخير خيرين.
كان على أبى أن يسكنها حتى أزورها وأرى التربة الخضراء وإسم العائلة محفور في وسطها باللون الأخضر الداكن. ليست تربة كبيرة، ولا فخمة، وليست بناءً تدخله بل هي أشبه بمكتب كبير أو مصطبة منخفضة تقف أمامها ولا تعبر لأى اتجاه، وعليها الاسم بارزًا باللون الداكن. الحر دائمًا رفيقى حين أزور أبى، فأنا لا أزور شتاءً حيث المطر الذي يحول التراب إلى طين فتنزلق قدمى ويتسخ حذائى ويعذبنى الشتاء بسؤال ماذا يفعل بالراقدين في طينه؟ أبى وعمتى وجدى وجدتى ووجوه لا أعرفها، كلهم في الطين. "ده تراب في تراب، الروح عند الله خلاص" يأتينى صوته مطمئنًا، لكننى أظل لا ازور المقابر في الشتاء. أزور صيفًا فتكون الحرارة والرطوبة ولزوجة العرق حتى مع الصباح الباكر.
أتأمل اسم العائلة محفور على التربة من الخارج. وأفكرفى البيوت المطلة على التٌرب في الشتاء والصيف وكل المواسم. دومًا يصحبنى رجل من العائلة فلا أستطيع ان أقول ما إشتقت كثيرًا أن أقوله له لأن كل الكلمات تصبح سخيفة في الرطوبة وتحت شمس الصباح المبكر وكل هذا الضوء الكاشف رغم أنها كانت تبدو هامة قبل أن تخرج من قلبى وتعبر صدرى لتقف على شفتىّ. وأظل أقول اننى سأقول ما أريد أن أقول داخل نفسى دون أن أقوله لأننى حين أنظر إلى المقبرة الخضراء وبجانبها مقابر أخرى أقصر قليلا أو أطول قليلا وبألوان مختلفة أجدنى أتخيل مدينة قديمة من البيوت الملونة لإناس هم بالقطع من الأقزام وإلا ما سبب صغر حجم البيوت هكذا وقِصر طول الباب؟ لا أفكر وقتها بشئ سوى شجر الصبار المتناثر وكم سيكون مؤلما لو لمسته ورائحة التراب المسقى بالماء حولها وصوت الكلاب الضالة المستأنسة ورائحة العرق، العرق اللزج، نمسحه من فوق جباهنا ومن تحت أعيننا في قلب النهارالحار وأحاول ألا أفكر أن هناك شتاء قادم وسيأتى المطر.
ليس هذا أجمل ما اتذكره عن أبى!
أتذكر من سِحر أبى صوته وحكاياته!
أنزل سلم بيتنا طفلة في السادسة مشدوهة بصوته الجميل في صلاة الفجر وتتفتح ورود غامضة تحت يدى البضة على الجدار. ثم أجلس هناك على آخر درجة في السلم وأنصت إلى صوته. حين ينتهى يشعر بوجودى وينادينى ليجلسنى على سجادة الصلاة الحمراء الصغيرة. "إحكى لي حكاية سيدنا إبراهيم" ويحكى وأنا انظر لوجهه الأسمر العميق، يحكى كيف ذبح إبراهيم طيره الذي يربيه ويعرفه، وزع لحمه على الجبال، ثم ناداه فطار إلى يديه كما يفعل كل يوم. رأى الموت والبعث بعينيه، اطمئن قلبه وسلّم لربه. ثم جاء اختبار الرب برؤية إبراهيم نفسه يذبح ابنه، قرة عينه، فأذعن طواعية لربه الذي افتدى الولد بذبح عظيم ونجح النبى في الاختبار.
"يعنى لو ربنا قال لك إدبحنى حتسمع الكلام زى سيدنا إبراهيم ما سمع الكلام وكان حيدبح ابنه اسماعيل؟ " يشد الشاب الأسمر نفسًا عميقًا ويرد على ابنة السادسة، " النبى إبراهيم نبى قوى، عظيم، عشان كده ربنا بيدى له أسئله صعبة في الامتحان. أنا راجل غلبان. ربنا بيدى كل واحد أسئلة على قده. يا الله إطلعى نامى بقى يا قمر".
أصعد الدرج بهدوء وأمرر يدى على أزهار الجدار لتنقفل وتعود كما كانت، حديقة سرية.