أرض النوبة لها أصحاب.. ولها ورثة أيضًا

أرض النوبة لها أصحاب.. ولها ورثة أيضًا

زياد العليمى

زياد العليمى

22 نوفمبر 2016

يناير 2011: لا يوجد لدينا مطالب خاصة

يخرج الآلاف من أبناء النوبة مثل ملايين المصريين في كل بقاع الوطن، ليرفضوا دولة الفساد والاستبداد، ويعلنوا أنه الأوان لإقامة وطن حر لجميع المصريين. وطن عادل لا يفرق بين مواطنيه على أساس الجنس أو الدين أو العرق.

 

الحقوق التاريخية لن تُنسى بمُضي الوقت، والدول لن تُبنى بسلب حقوق مائة ألف مواطن من أبنائها، سينجبون أبناءً يعرفون حقوقهم المسلوبة.

 

قدم النوبيون سبعة شهداء لحرية بلادهم، وتعلن لجنة متابعة القضية النوبية وكافة القوى الوطنية بالنوبة، وقف المطالب النوبية المشروعة لحين استقرار الأوضاع في البلاد، وأعلن قادة اللجنة موقفهم واضحًا: "ليست لنا مطالب فى هذا التوقيت الحرج الذى تمر به البلاد، لنا مطالب مشروعة تجاهلها نظام يصم أذنيه عن مطالب كل أبناء الوطن.. والآن ليس لنا أى مطلب.. نحن نقف فى خندق واحد من أجل مصلحة مصر العليا، أى مطلب خاص الآن انتهازية سياسية يرفضها أبناء النوبة".

 

وبعد سقوط مبارك أعلن الأديب النوبي حجاج آدول موقف آلاف النوبيين مما يحدث: "إن مصر تنادينا ويجب أن نلبى نداءها، لابد من التريث حتى تهدأ الثورة المضادة التى تحاول إجهاض ثورتنا المجيدة، سوف نتحدث عندما تهدأ وتستقر الأمور، مطالبنا الحالية هى هى مطالب أبناء مصر العامة: الحرية.. العدالة.. المساواة".

 

نوفمبر 2016: لماذا تمنعني سيادتك؟

"إحنا رايحين في أرضنا... إحنا رايحين في بلدنا.. جمهورية مصر العربية، بلاد النوبة في جمهورية مصر العربية، الجيش والشرطة بيمنعونا ليه؟ سيادتك رد ع السؤال دة، بتمنعونا ليه! إديني إجابة".

 

قالها أحد المواطنين المصريين من أبناء النوبة مخاطبًا قيادة عسكرية تمنع مرور قافلة العودة النوبية.

 

وبين التاريخين تبخر تدريجيًا حلم المصريين النوبيين في أن يعاملهم النظام المصري كما يرون أنفسهم، مواطنون مصريون يتمتعون بكافة حقوق المواطنة، ضحوا لصالح الوطن، ونكص كل الحكام بوعود استرداد الحق النوبي، فما هي مطالب النوبيين؟ وما الذي جعلها تتجدد الآن؟

 

الهجرتان: وحدنا ندفع الثمن

لم يدفع النوبيون من تاريخهم وذكرياتهم وممتلكاتهم ثمن تطوير البلاد مرة واحدة، بل مرتين..

الأولى تمت على أربعة مراحل.. في الفترة من 1898 وحتى 1933 حينما تم تهجير أبناء 28 قرية نوبية غرقت تحت المياة التي تم تخزينها في خلف خزان أسوان، للاستفادة منها في ري كافة أراضي الوطن. والثانية عام 1962 عندما تم تهجير سكان باقي القرى النوبية لإتمام عملية بناء السد العالي.

 

دفع النوبيون المصريون ثمنًا باهظًا من حياتهم المستقرة الآمنة منذ آلاف السنين، وممتلكاتهم، وذكرياتهم، وزراعاتهم، ومقابر أجدادهم.

 

الهجرة الثانية لباقي سكان القرى النوبية الأربع وأربعين، كانت سريعة ودون دراسات كافية، فنقلت بعض الأسر لمساكن بديلة غير صالحة للحياة في مناطق صحراوية، وكانت النتيجة وفاة عدد كبير من كبار السن وحديثي الولادة أثناء وبعد التهجير مباشرة، بينما تركت باقي الأسر لتبحث عن مسكن لها بجهودها الذاتية في باقي محافظات مصر، دون دعم من الدولة..

 

تركوا قراهم وأراضيهم الخصبة التي لم يعرفوا هم وأجدادهم عملًا سوى زراعتها، واثقين في وعد الحكام لهم، بأن هذا الانتقال مؤقت، لحين الانتهاء من أعمال تشييد السد العالي وتخزين المياة، وإعادة بناء قراهم في أقرب المناطق للقرى الأصلية من جنوب الخزان وحتى مدينة أدندان بوادي حلفا على الحدود المصرية السودانية. 

 

غادروا أرض الأجداد بوعد العودة لتعمير قراهم وزراعة أراضيهم من جديد. ورغم مرور خمسة وأربعون عامًا على افتتاح السد العالي رسميًا، وتولي رئاسة البلاد خمس رؤساء ومجلس عسكري، إلا أن أي منهم لم يف بما وعدت به السلطات المواطنين المصريين المهجرين.

 

دفع النوبيون المصريون ثمنًا باهظًا من حياتهم المستقرة الآمنة منذ آلاف السنين، وممتلكاتهم، وذكرياتهم، وزراعاتهم، ومقابر أجدادهم، ليقوا بلادهم شر الفيضان، ويمكنوها من توليد الكهرباء اللازمة للتطوير والتحديث. دفعوا الثمن وحدهم بإيثار شديد لا يختلف عن إيثارهم في كافة المنعطفات الهامة التي مر بها تاريخ بلادنا في البناء والحروب دفاعًا عن الوطن.

 

قرار جمهوري: تهديدات جنوبية للبلاد!

بعد سنوات طويلة طالب فيها المواطنون المصريون النوبيون بحقهم في العودة لأراضيهم وممتلكاتهم التاريخية، أسوة بما حدث مع سكان منطقة قناة السويس الذين تم تهجيرهم أثناء الحرب المصرية الإسرائيلية، وأعيدوا إليها بعد انتهاء الحرب، جاء الدستور المصري الحالي ليقر لهم بهذا الحق، حيث نصت الفقرة الأخيرة من المادة 236 منه على أن:

"تعمل الدولة على وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلي مناطقهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات".    

 

لكن يبدو أن الإرادة السياسية لبلادنا دأبت على انتهاك الدستور منذ إقراره، فلم تقبل الاعتراف بهذا الحق، وصدر قرار رئيس الجمهورية رقم 444 لسنة 2014 في 29 نوفمبر 2014، بتحديد المناطق المتاخمة لحدود جمهورية مصر العربية والقواعد المنظمة لها، وإذا به يقدم مفاجأة غير سارة للنوبيين.

 

حدد القرار بعض المناطق المتاخمة للحدود التي لا يحق لغير العسكريين التواجد فيها، وعلى الرغم من الحديث الدائم عن خطورة الوضع في المناطق المتاخمة للحدود الشرقية الفاصلة بين بلادنا وقطاع غزة، إلا أن القرار صدر بتحديد المناطق العازلة في الحدود الشرقية من أربعة إلى خمسة كم، بينما وصلت المنطقة العازلة الجنوبية إلى 25 كم غرب النيل، بالإضافة مساحة إجمالية قدرها 110 كم تقريبًا من أراضي شرق النيل، وتم استثناء المناطق الحدودية المتنازع عليها بين مصر والسودان ـ مثل حلايب وشلاتين ـ من تطبيق هذا القرار!

 

رأى كثيرون ـ وأظنهم على حق ـ في هذا القرار الذي انتزع حق التواجد لغير العسكريين في جزء كبير من الأراضي النوبية، والمفارقة بين تحديد المناطق المتاخمة في الحدود الشرقية التي تشهد عدم استقرار، والحدود الجنوبية التي لم تشكل أي تهديد، آلية قانونية لحرمان المواطنين المصريين النوبيين من حقهم في العودة، بالمخالفة لأحكام الدستور، فلا توجد أية شواهد على تهديدات جنوبية للبلاد، وإن ادعى البعض وجودها، فهل هذا التهديد يقل عن تهديدات الحدود الشرقية!

 

مشروع قومي: أرضنا التاريخية للبيع

أعلن الرئيس المصري في نوفمبر 2014 مشروعًا قوميًا لاستصلاح 4 مليون فدان، تم تقليصهم إلى مليون ونصف المليون فدان، بعد الإعلان بسبعة أشهر، تخصص نسبة 20% منها للمصريين و 80% للمستثمرين العرب والأجانب!

 

وطرحت الحكومة الشهر الماضي كراسة الشروط الخاصة بالمرحلة الأولى من مراحل هذا المشروع لتخصيص 500 ألف فدان للبيع، فوجئ النوبيون بطرح 12 ألف فدان من أراضيهم التاريخية للبيع في هذه المرحلة!

 

أطلق النوبيون حملة طرق أبواب لمنع بيع الأراضي النوبية بالمزاد العلني، فجمعوا عدد من أصحاب الحق التاريخي في الأرض وحاولوا التوجه لموقع أراضيهم لمنع بيعها، إلا أن القوات النظامية اعترضت طريقهم! اعتصموا في موقع توقيفهم، وطالبوا بحقهم الدستوري في التنقل، إلا أن مطالباتهم ووجهت بإطلاق النيران التي أصابت عدد من الشباب الذين حاولوا الحفاظ على حقوقهم المشروعة وحقوق آبائهم وأجدادهم.

 

والحقيقة أن التاريخ المصري الحديث لم يشهد اضطهادا منظما، ونكوصا عن العهود من الأنظمة والحكام المتعاقبين للبلاد على مدى ما يقارب الخمسين عامًا، كما يحدث مع المواطنين المصريين النوبيين الآن. انتزاع أراض للمنفعة العامة، تهجير قسري وسريع دون توفير بدائل لائقة، ثم زاد الأمر صعوبة مع غرق ممتلكات ووفاة كثيرين بسبب ظروف التهجير وطبيعة الأماكن التي تم التهجير إليها. هناك دائما هروب حكومي مستمر من تنفيذ الوعود ببناء قراهم مرة أخرى، ومحاولة محو ثقافة وخصوصية حضارية تثري الطابع الثقافي لبلادنا امتدت لآلاف السنين، وفي النهاية طرح الأراضي التي وعدوا بتعويضهم بها للبيع بنسبة 80% لغير المصريين!

 

التاريخ المصري الحديث لم يشهد اضطهادا منظما، ونكوصا عن العهود من الأنظمة والحكام المتعاقبين للبلاد على مدى ما يقارب الخمسين عامًا، كما يحدث مع المواطنين المصريين النوبيين الآن.

 

***

الحقوق التاريخية لن تُنسى بمُضي الوقت، والدول لن تُبنى بسلب حقوق مائة ألف مواطن من أبنائها، سينجبون أبناءً يعرفون حقوقهم المسلوبة، ويتعلمون أن الأنظمة المصرية المتعاقبة أصرت على انتزاعها عنوة، وتهميشهم واضطهادهم. وأمام هذه الطريقة غير المسئولة التي ينتهجها النظام، لن يجد أي شريف يسعى لأن تبنى بلاده بسواعد أبنائها جميعًا دون تفرقة، إلا أن يردد مع المواطنين المصريين النوبيين، شعارهم الذي رفعوه أمام محاولة بيع أراضيهم لمن لا يستحق بمعرفة من لا يملك "الأرض لها ورثة".