يوم غيرت صورة كاسترو مكانها في غرفتي

يوم غيرت صورة كاسترو مكانها في غرفتي

زياد العليمى

زياد العليمى

28 نوفمبر 2016

مات كاسترو، مات من كنت أصحو من نومي يوميًا خلال فترة مراهقتي لأرى صورته المعلقة على جدران غرفتي بجانب صورة رفيقه تشي جيفارا.

 

بموت كاسترو انفرطت آخر حبة في عنقود زعماء حكموا دولًا كثيرة حول العالم، جمعتهم رغبة تحرير بلادهم من نيران التبعية والاستعمار.

 

1. رمز التحرر الوطني والعدالة

كانوا، مع آخرين، زعماء رافقتني صورهم على جدران غرفي الخاصة في كل منزل تنتقلت إليه، والآن، أنظر إلى جدار غرفتي، فلا أجد سوى صورة جيفارا وقد خلع ملابسه العسكرية ليساعد العمال وقتما كان وزيرًا للصناعة. صورة لثائر، أصبح مسئولًا رسميًا، فلم يخجل من أن يشارك في أبسط الأعمال ـ نقل البضائع ـ ليخدم بلاده، تغير الصور المختلفة لهم، كان دليلًا على تغير رؤيتي، وأبناء جيلي لما كانا يمثلانه.

 

فما الذي لا يجعل مراهقًا لا يفتن بزعيم ولد لأسرة ثرية، وعارض النظام الحاكم لصالح الفقراء من أبناء شعبه، فاعتقل ثم نقي، وما لبث أن عاد ليبدأ حركة لتحرير بلاده بسبعين رجلًا، قدموا من خارج البلاد، بعد أن تم نفي بعضهم وهرب آخرون لمعارضتهم النظام الحاكم. قادوا حربًا ضد نظام كان مدعومًا من قوى عظمى، فما إن سقط حتى اتخذ كل منهم طريقًا يظنه الأفضل، اختار جيفارا ـ الأرجنتيني الأصل ـ أن يكمل دوره، مناضلًا أمميًا يحارب الظلم في كل مكان، رافعًا شعار "أينما وجد الظلم فذاك هو وطني"، محاولا تكرار تجربة كوبا ما بين إفريقيا وأمريكا الجنوبية، منظمًا صفوف الفقراء لمحاربة من تسببوا في إفقارهم، حتى استشهد وأصبح رمزًا لكل من يقاوم الظلم في العالم حتي بعد مرور ما يزيد على الخمسين عامًا على وفاته.

 

بينما اختار كاسترو وباقي رفاقه الانتقال من صفوف الثوار الذين يحاربون الظلم، لصفوف رجال الدولة الذين يحاولون تطبيق ما آمنوا به عندما حاربو المستبدين، محافظًا على استقلال القرار الوطني لبلاده، وساعيًا لتنميتها بسواعد أبنائها، وسط حصار اقتصادي عليها استمر لما يقارب الستين عامًا، فنجح في أن يقضي على الأمية تمامًا في البلاد، وأصلح المنظومة الصحية، حتى غطت مظلة الرعاية الصحية كل مواطن كوبي مجانًا، وأصبحت بلاده من أكبر الدول الرائدة في مجال الصحة الوقائية، وتفوقت في الرياضات المختلفة.

 

2. وكان العالم وقتها بين بديلين

بدأ كاسترو حربه للاستقلال الوطني ضد أمريكا، ليصبح قرار بلاده من داخلها، وشهدت علاقته بالسوفييت تقارب حينًا وتوترًا حينًا، بحسب المصلحة الوطنية لكي يصبح قرار بلاده لصالحها، فواجه حصارا اقتصاديا رهيبًا، قاومه بتوسيع ساحة المعركة، مصدرًا ثورات التحرر الوطني لبلاد العالم الثالث التي تحلم بالاستقلال، فساهم في تحرير قارة أمريكا الجنوبية، وبلاد أخرى حول العالم حلمت ببناء نفسها دولًا مستقلة بسواعد أبنائها، وبنى تحالفًا دوليًا بين هذه الدول، لتصبح قطبًا ثالثًا في المعادلة الدولية، مات الرقم الصعب الذي أذاق أكبر الإمبراطوريات في العالم كأس الهزيمة في بلاده وخارجها، ووسع تحالفه الدولي ليضم دولًا فقيرة حديثة الاستقلال، أصبحت باتحادها عنصرًا لا يمكن تجاوزه عند اتخاذ قرارات دولية.

 

أصبحت تجربة كاسترو ورفاقه في دول العالم بالنسبة لأبناء جيلي خير معين للحالمين بعالم عادل تكون السيادة فيه للشعوب، ويصبح الحكام فيه مأمورين من شعوبهم.

 

بموت كاسترو انفرطت آخر حبة في عنقود زعماء حكموا دولًا كثيرة حول العالم، جمعتهم رغبة تحرير بلادهم من نيران التبعية والاستعمار، وإعادة توزيع عادل لثروات بلادهم، لإنقاذ الفئات الأكثر فقرًا فيها.

 

حينها كان العالم يقف بين بديلين لا ثالث لهما، ديمقراطية مشوهة ترى في الحريات العامة الجزرة التي تلقى للشعوب لتمرير سياسات رأسمالية تجعل من كل الحقوق الطبيعية كالصحة والتعليم سلعة خاضعة للعرض والطلب، وترى في مواطني هذا العالم مستهلكين مستهدفين، ودول العالم أسواق يجب فتحها لتزداد المكاسب تحت شعار حرية نقل البضائع وحصار انتقال المواطنين، وبديل آخر يرى التضحية بالديمقراطية والحريات الشخصية، في مقابل دعم صوت واحد يسعى لاستقلال القرار الوطني، وإعادة توزيع الثروة لصالح الفقراء.

3. النموذج الذي أحرج الرأسمالية 

سنوات طويلة استغرقتها هذه التجارب حتى تعلم كل عاقل في هذا العالم يؤمن بالعدل الاجتماعي، بأن التغييرات الاجتماعية ـ وإن كانت في صالح الأغلبية ـ لا يمكن أن تستمر دون شعوب تدافع عنها وتحميها، ولن تدافع الشعوب عن حقوقها في العدل، سوى بانتزاع حقها في الحرية والديمقراطية، فمن تعلم أن ينتظر الديكتاتور الذي يمنحه العدل، لن يقاوم الظلم في غياب هذا الزعيم، فينتهي السعي للعدل باختفاء الزعيم العادل، أو بتنازله عن عدله لصالح شبكات مصالح جديدة التي ارتبط بها،ويصبح العدل خيارًا شخصيًا، لا شعبيًا، وتبقى الشعوب صامتة، بعد أن علمها من سعى لانتزاع حقها في العدل الاجتماعي، أن هذه الحقوق تُمنح لا تُنتزع.

 

وعلى الجانب الآخر، وأمام صعود المارد المُطالب بالعدل الاجتماعي، لم تجد أعتى الأنظمة الرأسمالية وسيلة لمواجهته، ومواجهة انتشار أفكاره بين شعوبها، سوى إضافة بعض مظاهر العدل الاجتماعي مثل دعم الدولة للتعليم والصحة، وغيرها من السلع كما تراها الرأسمالية التقليدية، والتي أصبحت حقوقًا بنضال الشعوب، وتقديم بعض التنازلات في مجالات التضامن الاجتماعي للعاملين، لتفادي ثورة الفقراء الذين يرون دولًا تقدم هذه السياسات كحق أساسي لمواطنيها.

   

4. الحاكم المزمن وشبكات المصالح

واليوم، لم يعد لصورة كاسترو نفس الوقع عندي. 

 

ومثل تجارب المحاربين من أجل الديمقراطية ـ على اختلافهم ـ أصبحت تجربة كاسترو ورفاقه في دول العالم بالنسبة لأبناء جيلي خير معين للحالمين بعالم عادل تكون السيادة فيه للشعوب، ويصبح الحكام فيه مأمورين من شعوبهم. شعوب لها الحق في محاسبة الحكام الذين يعملون لصالح حقوق الشعوب وحرياتها، واستقلال القرار الوطني. كل من كافح ـ أصاب وأخطأ ـ لنيل هذه الحقوق سيظل بطلًا يحق له أن نتذكره ونعلم أبنائنا أن هناك من دفعوا ثمن تمتعنا بحقوقنا الأساسية.

 

وأظن أن الشعارات التي رفعها المصريون في يناير 2011، كانت الأكثر وعيًا وتعبيرًا عن موجة جديدة حول العالم للحالمين بالتغيير، بعد أن تعلمنا من التجارب، أن لا ديمقراطية حقيقية دون عدالة اجتماعية تعطي للجميع حق الاختيار دون ضغط الحاجة والعوز، ولا عدالة اجتماعية دون ديمقراطية تتيح للشعوب حق الدفاع عن حقوقها في العدل التي اكتسبتها بنضال أبنائها، فأعلن المصريون تمسكهم بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية حزمة واحدة دون تجزئة، وسعوا لإسقاط نظام فرط في القرار الوطني لصالح دولًا تدعم بقائه في السلطة.

 

نتيجة سنوات طويلة من التجهيل المتعمد نجد اليوم في بلادنا من يسير عكس عجلات التاريخ، فما زال في بلادنا، من يطل علينا، ليحثنا على عدم المطالبة بالديمقراطية، لنحاول بناء بلادنا أولًا، وفي نفس الوقت، ينصحنا بالصبر على مظاهر الظلم الاجتماعي لمواجهة أزمات صنعها النظام بسياساته، هؤلاء يطلون علينا بشعارات عفى عليها الزمن، مهللين لنظام أفقر شعبه، وصادر حرياته، وفرط في قراره الوطني، لصالح بقائه في السلطة والحفاظ على شبكة مصالح يستفيد منها الحكام والمقربين منهم، ثم لا ينفكون في مثل هذه المناسبات، أن يهيلوا اللعنات على كاسترو الذي حرم شعبه من الديمقراطية، هؤلاء، من تجاوزهم التاريخ، قبل أن يتجاوز تجارب كاسرو ورفاقه، لن يكون مصيرهم إلا الانقراض، فليرقدوا في سلام، بدلًا من أن يحاولوا وقف عجلة التاريخ.

 

نتيجة سنوات طويلة من التجهيل المتعمد نجد اليوم في بلادنا من يسير عكس عجلات التاريخ، فما زال في بلادنا، من يطل علينا، ليحثنا على عدم المطالبة بالديمقراطية!

 

دفع شعبنا وشعوب العالم ثمنًا كبيرًا للحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية واستقلال القرار الوطني، ولا يحق لأي شخص أن يطالب شعبًا بالاختيار من بين هذه الحقوق، التي نستحقها كاملة، وسلام على أرواح من أفنوا عمرهم وقدموا حياتهم لتجارب، كي نتعلم من نجاحاتهم وإخفاقاتهم قيمة كل حق من هذه الحقوق.