لكن الحسد لا يموت !

لكن الحسد لا يموت !

كريم الشاذلى

كريم الشاذلى

05 فبراير 2017

 

"سوف يموت الحُسّاد غير أن الحسد لا يموت!".

 

كان وقع هذه العبارة التي قرأتها يوماً للكاتب الفرنسي الشهير "موليير" على لسان أحد أبطال مسرحيته "طرطوف" أثراً مزعجاً على نفسي، ذلك أنها فتحت في ذاكرتي خندقاً، وشغلتني بنفسي، وكشفت شيئاً من عوج الروح واهتزاز رضاه!

 

"سوف يموت الحُسّاد غير أن الحسد لا يموت!".

 

 

الحساد يموتون كل يوم، ويولدون كل ساعة، ذلك أن كل واحد منا هو مشروع حقيقي لحاسد، غير أن القليل منا من يعترف بذلك ويقر به.

 

كنت ابن العاشرة حينما دخل علي أحد أطفال العائلة ممسكاً بشهادته المدرسية قائلاً في لهجة غريبة لا تليق بسنوات عمره ولا خبرته: "ها قد تفوقت عليك هذه المرة، أأمل أن تذكر هذا جيداً!"، أصابتني الدهشة وقتها نظراً لأني لم أتفاخر عليه يوماً بتفوقي، فمن أين أتاه كل هذا الغضب، ومن ألقى  في روحه ببذرة الحسد؟

كان التفسير المنطقي أن هناك أب أو أم حركوا نوازع الأنا بداخل الإبن، غير أني وإذ أعيد النظر أجد أن الحسد شيء جبلي في الفطرة الإنسانية، وتطور طبيعي للنفس الإنسانية، وإلا من علم قابيل الحسد في سنوات الأرض الأولى، وقد كان في كنف رجل وامرأة قد هبطا توهما من جنة الله!؟

 

وما توصلت إليه أن الحسد كالغضب، والجبن، والقلق، شعور إنساني يتكون مع المرء منا ويكبر كلما وجد منا ميوعة في كبحه والسيطرة عليه، يبدأ من فرضية "لماذا هو ولست أنا"، ويكبر كلما أكثرنا من الأسئلة التي تدلل على مراهقة روحية مثل"أنا خير منه، فلماذا تفوق علي؟" ونشعلها بترديد عبارات حمقاء كالتي تعلمناها في الصغر مثل "يدي الحلق للي بلا ودان" كناية عن تخبط القدر وظلمه في توزيع الأرزاق على الناس ..

 

شخصياً، ضبطت نفسي كثيراً وأنا أمارس مثل هذا النوع من التفكير، حب المال، والشهرة، والسلطة، والتقدير، كثيراً ما أشعلوا الصدر كي يرى الأمور بشكل خاطئ، كثيراً ـ ويؤسفني قول ذلك ـ ما سألت نفسي هذا السؤال (ولماذا ليس أنا؟).

 

ساعد على نمو هذه الحالة طبيعة الزمن الذي نحيا فيه، وحالة التنافسية التي تحيط بنا، وظهور مدارس التسويق والتي تحاصرنا في كل ثانية مؤكدة أن هناك ثمة قمم لم نصل إليها، وامتيازات لم نُحصلها، وأن هناك من سبقنا، وبالتالي فإننا لسنا جيدين كما نظن.

 

وبذرة الحسد تنمو سريعاً في حال غياب الرضا، والرضا لا يتكون إلا بقناعة راسخة بأن المرء منا لن يستطيع أن ينال كل ما يشتهي على سطح هذه الأرض، وأن الله عادل في توزيع الأرزاق، وأن ما نراه ظاهراً أمامنا ليس بالضرورة هو الصورة الكاملة وأن حقيقة الأشياء تكمن في الصدر لا في المظاهر.

 

الرضا هو درب من دروب الجهاد الحقيقي، معركة تدور رحاها في نفس تشتهي، وأكرر بأن كل ما حولنا لا يساعد أبداً على انتصار الرضا في معركته ضد الطمع والحسد والأثرة وحب النفس.

 

وبنظرة متأملة لتاريخ العظماء، لن نجد عظيماً يحسد أو يحقد، وإلا لشغلته مشاعره تلك عن ملاحقة مشروعه ونشر رسالته، وليس معنى هذا أن الحسد لا يزور كل القلوب غير أن هناك رجال ذوو بأس لا يسمحون بحركة النفس الدونية أن تتكون وتكبر، يحاربونها في إصرار ويعتذرون إلى أنفسهم إذا ما زلت أقدامهم مرة أو أكثر.

 

كان أحد ملوك الروم القدماء يحرص دائما على أن يصحب معه شيخاً حكيماً كل دوره أن يهمس في أذنه كلما رأى الناس تهتف باسمه: "تذكر أنك إنسان".

 

إنسان في قبضة القدر، مهما على ذكرك فإنك يوماً ما ـ ولعله قريب ـ ستصبح ذكرى ماضية، وأنه مهما بلغ مالك فإنك ستذهب وحدك إلى باطن الأرض، وعليه فلا فخر هنا يمكن أن ينسينا الحقيقة، حقيقة أن ما نشتهيه ونطلبه ونحارب من أجله ويأكل من أرواحنا قد لا يستحق كل هذا الصخب الدائر في نفوسنا.

 

إنسان هذا الزمان بحاجة ماسة إلى فهم معادلة كيف يكون طموحاً وراضياً في نفس الوقت، كيف يكون صوفياً في تعامله مع بواعثه النفسيه، عملياً في تحقيق أحلامه وآماله، ذلك أن لا تضارب أبداً بين السعي في أرض الله بحثاً عن إنجاز نحقق به ذواتنا والرضى بما يأتي به القدر.

 

إنسان هذا العصر بحاجة إلى إدراك حقيقة أن خزائن الله ليست خاوية أو شحيحة.

 

إنسان هذا العصر بحاجة إلى إدراك حقيقة أن خزائن الله ليست خاوية أو شحيحة، وأن الإنجاز الذي يحققه هذا أو ذاك ليس بالضرورة خصماً من نصيبه، ولن يضيق من فرصته في امتلاك فرصة أو تحقيق فوز.

 

أعلم ـ بحكم تجربتي الشخصية ـ أن هذا درب من الجهاد، وأننا في الغالب لن نربح على طول الطريق في تلك المعركة، غير أن المجاهدة في حد ذاتها لون من ألوان النصر، فليس هناك أعظم ـ حسب زعمي ـ من إنسان ينظر في عين نفسه ويخبرها بكل قسوة أن تتوقف عن توزيع بؤسها وتذمرها، فإنها رضيت أم أبت لن تصل إلى غاية المنى في كل شيء، وأنها ستموت وقد سقطت منها أشياء، وأن أحكام القدر نافذة رغم أنفه وأنفها!