
الأسئلة الصحيحة

كريم الشاذلى
20 أبريل 2017
تعلمنا أن نبحث دائماً عن الإجابات الصحيحة..
نلهث كي نملئ فراغ الحيره بجواب يطمئننا، وبالرغم من الوصول إليها، إلا أننا .. نتعثر كثيراً!.
قال حكماؤنا قديماً: "السؤال الصحيح نصف الإجابة"، لافتين النظر ـ بشكل عبقري ـ إلى أن هناك خطأ شائع في كيفية طرح الأسئلة، وعليه تصبح كل الأجوبة ـ مهما كانت صحتها ـ غير ذات نفع، ذلك أن المقدمات نفسها لم تكن بالدقة الكافية.
عقد ونصف تقريباً وأن مهتم بمجال العلوم الإنسانية، أمضيتها في محاولة فهم طريقة تعاملنا مع أنفسنا وشركائنا والحياة بشكل عام، قرأت فيها الكثير من الأفكار والنصائح والفرضيات التي من شأنها أن تجعل سعادة الناس أكبر وشقائهم اقل، ورغم ذلك كان يؤرقني كثيراً عدم كفاية تلك النصائح المعلبة لمداواة وجع الناس وشفائهم.
لا يخبرنا أهل التنمية البشرية أن حياة المرء منا ليست منوطة بذاته فقط، ولا تتحكم فيها جملة مواهبه وقدراته وطموحه فحسب.
أعدت النظر إلى كتب ودورات ما يسمى بالتنمية البشرية، وفجعني أنها لم تغير في الناس الشيء الكثير، وأنها ـ مع تخمتها بالنصائح ـ ليست قادرة على مداواة الجرح، ولا إقالة العثرة.
كنت أظن حينها أن الخلل قائم على استيراد إجابات جاهزة على الأسئلة التي يطرحونها، وذهبت إلى أننا يجب أن نستلهم إجابات من واقع حياتنا، أطروحات تشبهنا كي نتفاعل معها بمرونة وأريحية اكثر.
كان هذا قبل أن أعي حقيقة هامة جداً، وهي أننا نجاوب على السؤال الخاطئ بإجابات صحيحة، وعندما نرحل سعداء بما وصلنا إليه، يرتد إلينا البصر خاسئا وهو حسير، حيث الزاد الذي استزدنا به لم يكن ناجعا ولا مفيدا!.
إننا لا نستورد الأجوبة فقط، وإنما الأسئلة كذلك!
نحن نجيب على أسئلة مثل: كيف ننجح، كيف نرتقي، كيف نصبح سعداء، كيف نُصلح زواجنا، كيف نربي أبنائنا بشكل سليم؟.
وهذه لو تدري، أسئلة خاطئة!.
وكان الأحرى بنا أن نسأل سؤال آخر، أكثر دقة وأشمل فهماً، وهو: كيف أنجح في تلك البيئة المُحبطة؟!، كي أرتقي وسط هذا الواقع المزيف؟، كيف أصبح سعيداً في عالم كئيب مضطرب؟، كيف أُصلح زواجي المُحاصر بكل هذه المعتقدات المدمرة؟، وأربي أطفالي بشكل صحيح وكل من حولي يهدم ما أقوم به؟!.
وللأسف، لا يخبرنا أهل التنمية البشرية ـ وغالب الظن أنهم يجهلون ـ أن حياة المرء منا ليست منوطة بذاته فقط، ولا تتحكم فيها جملة مواهبه وقدراته وطموحه فحسب، وإنما هي قبل ذلك قائمة على تشابكه وارتباطه بالمجتمع الذي يعيش فيه، فإذا كان المجتمع صحياً ناضجاً أخذ بيده، بينما المجتمع المعتل لا يقدم لأفراده أي ضمانات يمكن أن توفر لهم حد أدنى من الطمئنينة الروحية، والتي لا غنى عنها كي يصبح المرء إنسانا يحمل هموماً أكبر من فكرة محاولة تفادي الضربة القادمة!
تأملت اندفاع الوعاظ والمحاضرين والمدربين بل والساسة ورجال الإعلام ـ في إصرار مدهش ـ على الاستهانة بصعوبات الواقع مؤكدين أن "الظروف" كذبة، وأن لا شيء أقوى من إنسان يعرف حلمه جيداً!، وكما ترى فإن الكلام الحالم يبدو ممتعاً ومثيراً، لكنه للأسف ليس صحيحاً بالكلية، ذلك أن "الظروف" التي تواجهنا في واقعنا العربي، فيها من الظُلم، والإجحاف، ما يجعلنا كمن هبط إلى مضمار السباق بعد ساعة من بدء المسابقة، والكل يصرخ فيه أن يكون أول من يصل إلى خط النهاية ويتسلم الميدالية الذهبية.
من هنا أجزم بأن طرح السؤال الصحيح يجب أن يكون شغلنا الشاغل، حتى لا نجد أنفسنا نتصارع مع شبح وليس الواقع الحقيقي المُعاش، وصراع الأشباح صدقني منهك للقوى جالب لليأس.
إن أسوء شيء يمكن أن تفعله فينا الإجابات الصحيحة على الأسئلة الخاطئة أنها تدفعنا إلى ما يسميه أهل الاقتصاد "دفع تكلفة الفرصة" بمعنى أننا نمضي قدماً في محاولة إصلاح خاطئة تأخذ شكل المحاولة الصحيحة، وعليه نعود محملين بروح مليئة باليأس والإحباط وانعدام الأمل، وكيف يأتي الأمل وقد قمنا ـ كما نظن ـ يما يجب علينا القيام به ولم يتغير شيئاً.
طرح السؤال الصحيح يجب أن يكون شغلنا الشاغل، حتى لا نجد أنفسنا نتصارع مع شبح وليس الواقع الحقيقي المُعاش.
ولعلي بصديق يرى في كلامي شبهة إحباط، ودعوة لعدم المحاولة، وهذا لو تدري آخر ما أرنو إليه. وإنما مقصدي أن علينا التحلي برؤية ناقدة قادرة على مشاهدة الأشياء والتحديات والصعوبات من حولنا كما هي، وفك التشابك القائم في واقعنا، والتدقيق بشكل أكبر في المحاولات التي نجح أو أخفق اصحابها في الوصول إلى غايتهم، لأن فيها الشيء الكثير مما يمكن الاستفادة منه.. وقد تكون أكبر بكثير من الأطروحات التي نقرأها في كتب المفكرين ورسائلهم.
شخصياً ومن واقع عملي وجدت مثلاً أن معالجة خلل الأسرة ومحاولة علاج التصدع الذي يصيب المجتمع من جراء حالات الطلاق المسعورة التي تفجعنا بها الإحصائيات كل عام، ليس فقط بتوجيه نصائح سلوكية للزوجين، وإنما في طرح سؤال مهم عن دور المجتمع بعاداته وقيمه وأمراضه في التأثير على كيان الأسرة، وشحن الزوجين بحالة من التوتر والقلق والقيم الذكورية الخاطئة، ضف فوق ذلك أن المجتمع نفسه ممثلاً في إعلامه ومفكريه ونخبته يقومون بطرح حلول لا تقل سوء عن الواقع المعاش، فنراهم أمام ذكورية المجتمع يذهبون إلى محاولة "تنمير المرأة" وشحنها بقيم ذكورية هي الأخرى وحجتهم أن لا تكون لقمة سائغة أمام تغول الرجل الشرير، وكأن الزواج صار حلبة صراع يجب أن يكون فيها "رابح وخاسر"، إنه التيه كما نرى.
ولا سبيل للخروج من هذا التيه ـ كما أزعم ـ إلا بتعليم الناس كيف يطرحون الأسئلة الصحيحة رغم صعوبتها، ويواجهون المجتمع بعواره كي يتسنى لهم مخالفته وعدم الرضوخ لسطوته، ذلك أن دور المثقف الحقيقي نراه جليا في الغوص نحو الأعماق، وإخراج الخلل وطرحه على مائدة الوعي ولفت نظر الناس إليه، ومن ثم يبدأ في طرح الأسئلة الصحيحة عن خطورة هذه المشكلات وكيفية مواجهتها وتحديها.
أما الإجابات فصدقني أمرها أهون من ذلك بكثير..!