
محمد صلاح وشيكابالا.. الموهبة بين الاجتهاد والابتذال

أحمد مدحت
11 أكتوبر 2017
كان شيكابالا يمتلك كل ما يمكن أن يجعله من أهم من لعبوا كرة القدم في مصر.
اتشهر في سن صغيرة نسبيًا، على عكس كتير من لاعيبة الكورة المصريين أصحاب الموهبة، زي أبو تريكة مثلًا اللي ابتدا يتعرف وهو في أواخر العشرينيات.. معظم اللي عاصروا شيكابالا في فترة انطلاقته مع الزمالك، بعد عودته من تجربة احتراف فاشلة في اليونان، أجمعوا على إنه من أفضل المواهب الكروية اللي ظهرت في مصر على الإطلاق؛ إمكانيات فنية مرعبة، وإمكانيات بدنية ممتازة.
تزامن بزوغ نجم "شيكا" مع فترة كان بيعاني فيها ناديه "الزمالك" من أزمات إدارية طاحنة، غابت معاها البطولات، وبعد فريق الكورة كتير جدًا عن المنافسة.. وسط كل ده أصبح شيكا هو معشوق جمهور الزمالك الأول، وأحد أهم الأسباب اللي خلت متابعة فريق الزمالك شيء له معنى.. الفُرجة على شيكابالا في أوقات تألقه كانت متعة مضافة للفُرجة العادية على أي ماتش؛ وجوده في الملعب بيخلي تجربة المشاهدة مضاعفة المتعة.. معظم اللي بيشجعوا الزمالك حاليًا وسنهم أقل من 20 سنة، هتلاقي شيكا كان السبب الرئيسي في ارتباطهم وتعلقهم بحب الزمالك.
بس للأسف مكنتش دي الصورة الكاملة.
(2)
الجزء التاني من الصورة كان بيقدم شيكا فيه أسوأ ما يمكن أن يقدمه لاعيب كورة من ناحية الالتزام السلوكي والرياضي، واحترام موهبته اللي وهبهاله ربنا.. حالة الفوضى اللي كانت في الزمالك في الفترة دي، والتدليل الإداري المبالغ فيه؛ ساهم أكتر في التدمير البطئ لموهبة كروية جبّارة.
مشاكل متكررة مع الإدارة، وخلافات مع الجهاز الفني أحيانًا.. تذبذب غير طبيعي في مستواه الفني ولياقته البدنية؛ لدرجة إنه ممكن يعمل مباراة عظيمة مبهرة، ويقدم بعدها 3 أو 4 مباريات يكون فيهم وجوده زي عدمه، كأنه لاعيب تاني! حتى في حياته الشخصية عانى من لخبطة مماثلة لحياته العملية كلاعيب، وتكرر جوازه وانفصاله.. حالة كاملة من التشتت وعدم الاستقرار النفسي والفني.. وسنين شباب الفتى الموهوب بتمر، أزهى الأوقات اللي مفروض يقدم فيها أعظم مستوياته وعطاءه الكروي بتضيع بالبطئ في اللاشيء تقريبًا.
لغاية ما وصلنا لسنة 2012.. وهنا لازم نتكلم عن اللحظة دي بالتحديد.
(3)
إحنا دلوقتي في 2012، بعد مأساة مذبحة ستاد "بورسعيد" بشهور.. النشاط الكروي في مصر تم إيقافه، وكتير من أندية الدوري سرّحت جزء كبير من لاعيبتها.. مفيش كورة! لدرجة إن بعض اللاعيبة اللي بيلعبوا في دوري "الممتاز ب" لجأوا لأنهم يشتغلوا بيّاعين أو حرفيين؛ عشان يعرفوا يعيشوا.
وكالعادة، يدخل شيكا في خناقة جديدة، المرة دي مع مدرب الزمالك "حسن شحاته"، بعد ما استبدله في أحد ماتشات النادي في بطولة دوري أبطال أفريقيا.. الخناقة اتصورت عـ الهوا أثناء إذاعة الماتش، والبلد كلها مكنش لها سيرة غيرها.. في نفس الوقت، كان اللاعيب الصاعد المصري "محمد صلاح" بيقضي أول شهر له مع ناديه الجديد "بازل" السويسري.. لاعيب سريع في انطلاقاته، عنده مهارة لا بأس بيها أبدًا، وأحرز جول في الأهلي من شهور لفت له الأنظار أكتر.. اتعرض على نادي الزمالك، بعد قرار إيقاف المسابقات المحلية في مصر؛ عشان يشارك مع النادي في بطولة "دوري أبطال أفريقيا"، بس اترفض.. "لأن مستواه لا يليق بنادي الزمالك"، على حد تعبير رئيس النادي في وقتها.. محمد صلاح كان عنده فرصة ذهبية لمزاملة النجم الموهوب "شيكابالا"، بس للأسف.. مفيش نصيب!
(4)
إحنا دلوقتي في 2017، بالتحديد الساعة 9 مساء يوم 8 أكتوبر.. والنجم العالمي "محمد صلاح" بيجري منطلق؛ استعدادًا لتنفيذ ركلة الجزاء، اللي هيحرزها ويحط منتخب بلده في كاس العالم، لأول مرة من 28 سنة.
في نفس اللحظة كان "شيكا" بيتفرج على الماتش، بس مش من الاستاد، ولا من مصر كلها.. كان بيتفرج من السعودية.. "شيكا" حاليًا بيختم مسيرته الكروية، تجاوز الـ 30 سنة، لياقته قلت كتير؛ يمكن بسبب سنين إهماله لنفسه في بداياته.. بيختم مشواره الكروي في نادي سعودي متوسط القيمة اسمها "الرائد السعودي"، مش من الـ 4 فرق حتى اللي ممكن تقول عليهم الأكبر في الدوري السعودي.. وبيتفرج على النجم العالمي "ًصلاح"، لاعب نادي "ليفربول" وأغلى صفقة في تاريخ النادي الإنجليزي العريق، وهو بيقود منتخب بلده لكاس العالم.. يمكن يكون شيكا افتكر وهو بيتفرج على صلاح، مرفوعًا على الأعناق زي أبطال الأساطير الشعبية، إن شيكا مسجلش مع المنتخب غير هدف يتيم في مباراة ودية! هدف واحد في مسيرته الدولية مع منتخب بلده.
بالرغم من مأساوية النهاية، إلا إنها منطقية جدًا.
(5)
أجمل ما في مسيرة محمد صلاح، إنها حدوتة واقعية جدًا عن النجاح، دعوة واقعية غير مبتذلة للحالمين إنهم يكملوا ويجتهدوا ويصدقوا.. التصديق أول وأهم خطوة، بس من غير الاجتهاد والتعب والمعاناة عشان اللي مصدقينه، بيبقى ملوش قيمة.. الشغف لوحده مش كفاية، ولو الاجتهاد مكانش جنبه بيبقى مش مهم.. "صلاح" مش أعظم موهبة كروية جات في تاريخ مصر، لكنه بالتأكيد على وشك إنه يستحق لقب أفضل لاعب كورة في تاريخ مصر؛ كمثال للاجتهاد والإخلاص، والتطور الفني، والعمل في صمت.. "صلاح" ساكت معظم الوقت، لقاءاته عابرة وسريعة جدًا، ولما بيظهر في الإعلام مش بيكون من النوع اللي كلامه بيخطف الأنظار، بس شغله بيقوم بالواجب وبيجذب كل الأضواء.. معتقدش إني عاصرت إنسان مصري بيحترم "الموهبة" زي صلاح؛ يمكن لأنه أدرك بدري إن الموهبة شيء حسّاس جدًا، اللي بيحترمها بتكرمه وترفعه لمرتبة يمكن مكنش يتخيل إنه يوصلها، واللي بيهينها بتهينه، وتدوسه في الآخر، وتحوّله للاشيء.
صاحب أي موهبة بيكون دايمًا قُدّامه السكتين: يا إما يوهب نفسه لحلمه، ويعرف إن الوصول للي يستحقه طريق فيه من المشقات والتعب والظلم اكتر بكتير من الراحة اللي فيه.. يا إما يتواكل على موهبته، اللي مهما عظمت، عمرها ما هتضمنله أي مستقبل مشرق، إلا لو احترمها.
للأسف، الحياة لا تعترف إلا بالنتايج المنطقية، مهما كانت قاسية.