اعرفوهم في الحزن

اعرفوهم في الحزن

أحمد مدحت

أحمد مدحت

21 ديسمبر 2017

 

وأنا صغير، تقريبًا كنت في تالتة ابتدائي وقتها، لقينا عصفور واقع على سور البلكونة بتاعتنا، عصفور صغير لونه يميل للبُني، حجمه في حجم كف الإيد تقريبًا.. كان جناحه مكسور؛ لسبب لا يعلمه إلا الله.. وبالرغم من إننا في البيت عمرنا ما ربينا حيوان أليف، إلا إن شكل العصفور المسكين وهو نايم على جنبه، ومش قادر يطير، ومش قادر يمشي حتى، كان كافي طبعًا لكسب تعاطفنا كلنا كأسرة.. وقررنا إننا هنحاول نراعيه.

 

تولتْ أمي مسئولية الموضوع؛ بحكم إنها كانت أكتر واحدة فينا صعبان عليها العصفور المسكين.. هيأتله بيت صغير مناسب له، وابتدت تراعيه؛ تأكله، وتحطله ماية، وتطمن عليه كل شوية.. ومع مرور الأيام، ابتدا العصفور يتحسن شوية بشوية؛ يمشي، ياكل أكتر وبانتظام.. وتعلُّقنا كلنا بوجوده زاد، بقى بيته هو المكان اللي غالبًا بنتلف حواليه ونقعد نلاعبه، بس مفيش حد فينا اتعلَّق بوجوده زي أمي؛ يمكن لأنها في طفولتها كانت بتربي قطة صغيرة.

 

وكأن الله بعته لينا عشان نهتم بيه ونعالجه، ويكون مصدر جديد للبهجة البسيطة في بيتنا.

 

(2)

محدش يعرف قيمة الحزن، وأثره، والتغييرات اللي بيُحدثها في روح الإنسان، إلا اللي جرّبه وعاشره لمدد طويلة من حياته.

 

الحزن له بصماته على الروح، بصمات تقيلة مبتتمحيش بسهولة أبدًا، وبعضها مبيتمحيش خالص من نفس صاحبه، حتى لو زال الحزن نفسه وأسبابه؛ فبيفضل منه أثر، يمكن يكون غير مرئي إلا لصاحبه؛ هو بس اللي بيشوفه وبيلمسه ويدرك أبعاده، ويحاول دايمًا يهرب من هجماته عليه.

 

عادةً الشخص اللي بيمر بتجربة حزن قاسية؛ لما بيقدر يخرج منها ويتعافى نسبيًا، بيظهر دايمًا أقوى.. في رأيي، عادةً دي مبتكونش قوة، أد ما هي تقدير شديد لحاجات مكنش بيحس بطعمها قبل ما يمر بالتجربة الصعبة إياها اللي غيّرته وعلّمت فيه.. إحساسه بالتقدير ناحية ذاته، خصوصًا لو كان اللي فضلوا جنبه في حزنه قليلين، وعادة ده اللي بيحصل فعلًا، بيخليه يكون أكثر حذرًا بكتير في تعاملاته واختياراته بشكل عام، وبالخصوص في الناس اللي بيسمحلهم إنهم يدخلوا حياته؛ لأنه بيدرك بالتجربة مين اللي بيحبه فعلًا لدرجة إنه يكون جنبه وهو مكسور، ومش متوازن، حتى لو كان مش متفهم أو متقبل سبب حزنه، حتى لو كان شايف سبب حزنه مش مستاهل وتافه.

 

حتى لو كان حزنك انفجر بسبب حدث صغير، يبان تافه، لكنك وجهتله كل طاقة الحزن اللي كابتها جواك؛ بتكون وقتها مستني من اللي مفروض إنهم قريبين منك إنهم يبقوا جنبك، على الأقل يكونوا متفهمين ومتقبلينك، مش بيتريقوا عليك، أو بيقللوا منك بأي شكل.

 

(3)

كعادة الأشياء المُحزنة، غالبًا ما تحدث فجأة؛ لتقاطعنا في منتصف إحساسنا بالبهجة.

 

بعد مرور 3 شهور على وجود العصفور معانا، وبعد تحسُّن صحته بشكل ملحوظ جدًا؛ لدرجة إنه بقى يقدر يطير لمسافات قصيرة داخل الشقة.. صحيح مكنش بيقدر يكمل طيران، وكان بيقع ويرجع للمشي على رجليه تاني، بس حالته كانت أفضل بكتير.. وفجأة، صحينا في يوم، ورايحين نبص عليه في بيته، كعادتنا اللي اكتسبناها بسبب وجوده، لقيناه ميت!

 

متعودتش أشوف أمي بتبكي زي ما شوفتها يومها؛ عادة أمي بتلعب في بيتنا دور الطرف الأهدى والأكثر تقبلًا لحدوث أي شيء مُفجِع، لكنها يومها انهارتْ في بكا مستمر، موقفوش حتى إن أبويا أخدها في حضنه.

 

اللي عمري ما هنساه فعلًا هو موقف أبويا من اللي حصل، وتفهمه الغريب لحزن أمي، لدرجة إني فاكر إن البيت كله فضل أيام في حالة حزن عام مخيم.. كلنا زعلنا بسبب موته المفاجئ، لكن حزن أمي كان شديد جدًا؛ يمكن طاقة حزن كانت مكبوتة جواها، ولقت الفُرصة المناسبة عشان تخرج.. لكن الأكيد إن أبويا كان متفهم، من غير ما يطرح أسئلة كتيرة ولا يستغرب، حتى لو الموضوع بالنسباله كان تافه وعادي.. كفاية إنه مُحزن وموجع بالنسبالها... وهو ده الحب، في أبسط وأهم صوره.

 

(4)

علاقتك باللي حواليك في الأوقات العادية شيء، وعلاقتك بيهم في أوقات حزنك وانكسارك شيء تاني خالص.

 

الحزن بالرغم من تقله كاشف، مفيش غُربال دقيق زيه، مفيش شيء يكشفلك متانة علاقتك بالقريبين منك زيه؛ يمكن لحكمة إلهية إن مفيش تجربة مؤلمة إلا وبيكون لها فايدة، حتى لو كانت استفادة غير ظاهرة إلا بعد مرورك بالتجربة؛ كجزء من لطف الله الخفيّ.