
بالعقل كده (20)
تجربة عملية في تفويض السلطة

فتحى النادى
07 أبريل 2016نصف قرن من العمل العام حاولت خلالها أن أحلق فوق أي مكان أعمل به أو أزوره بجناحين: العلم والخبرة العملية.. ألتقي بكم هنا كل أسبوع مرة في محاولة للتحريض على التفكير في أمور حياتية من خلال مواقف تعرضت لها وتعلمت منها.
مسألة سفر وزير أو عودته لا تعنينى كثيرا تلك الأيام خاصة وأن نفس "الكليشيه" يتكرر وربما بنفس الكلمات عند كل سفرية عن مناقشة أو الإطلاع على كذا.. ما يعنينى في الموضوع هو أنه يجسد بشكل زاعق مأساة سوء الإدارة في مصر وضرورة تواجد المسئول الأول في مكان العمل حتى يضمن أن العاملين معه يؤدون عملهم.
أليس هناك ما يكفى من النواب لكى يتولى المسئولية ويتخذ القرارات في غياب المسئول الأول؟ طبعا لا، فعملية تفويض السلطة ليست ضمن أدبيات الإدارة في مصر في أى موقع.. المسئولون في مصر يعشقون تركيز السلطة في أيديهم كنوع من بوليصة التأمين لبقائهم في مناصبهم وهذا يفسر غياب الصف الثانى والثالث ويصل بنا طبعا إلى حالة "فقر الإدارة" أو "الشح الإدارى" التى نعانى منها حاليا ويخنق فرص الشباب في تولى أى مسئولية وقد تكلمت عنهما بأمثلة محددة فى مقال سابق.
ويذكرنى ذلك بالمحاولات المضنية التى كنا نبذلها منذ أكثر من ربع قرن لكى نقنع المديريين التنفيذيين الذين عملوا معنا بضرورة تفويض السلطة لصف ثان يقوم بالعمل فى غيابهم، ونصصم وننفذ البرامج التدريبية التى تقنعهم بمزايا التفويض وفائدته بالنسبة لهم فى الحفاظ على صحتهم وتوفير الوقت وسرعة الإنجاز وبث الثقة فى نفوس من يعملون معهم وزيادة وعيهم بمسئولياتهم.. سافرت لعدة أيام مع مجموعة من المديرين التابعين لى فى واحدة من أكبر الشركات فى مصر فى منتصف الثمانينات (لم يكن الموبايل ولا التليفونات الذكية قد اخترعت بعد) إلى مصيف بعيد عن القاهرة لكى يكونوا فى معزل عن أى تأثير سلبى أو توتر بسبب ضغوط العمل وفى بيئة تساعد على التركيز والاسترخاء، لكى نضع الخطة الاستراتيجية لخمسة أعوام قادمة.. وجدت مقاومة من المديرين لفكرة أن نغيب جميعا لعدة أيام بعيدا عن الشركة ولكنى أصريت ولم يكن أمامهم سوى الموافقة فى النهاية.
تعمدت ألا أطلب من المديرين أن يفوضوا السلطة لمن يليهم فى السلم الوظيفى لكى أرى كيف يتصرفون.. كنا نقضى معظم النهار فى غرفة اجتماعات نطرح الأفكار ونناقش ونختلف ونتفق، ثم نتوقف للغذاء والراحة لكى نعاود اجتماعاتنا فى فترة المساء التى كانت مخصصة لتدريب المديرين ورفع مهاراتهم وقدراتهم الشخصية فى إدارة الوقت وأساليب التفاوض والعمل الجماعى وطبعا التفويض.. لاحظت مدى لهفة المديرين – كلما سنحت الفرصة لذلك – للبحث عن تليفون بالاستقبال أو الذهاب إلى غرفهم بحجج مختلفة لكى يجروا اتصالات بمرؤوسيهم فى القاهرة (عرفت ذلك من مراجعتى لفواتير الفندق الذى كنا نقيم فيه) للاطمئنان على سير العمل أو لإعطاء التعليمات.
المفاجأة أننا حين عدنا للقاهرة اكتشفت أن حجم المشكلات فى غيابنا كان أقل بكثير مما كانت عليه فى وجود الصف الأول من المديرين لأن من تولوا المسئولية فى غيابنا أرادوا أن يثبتوا لنا أنهم جديرون بالثقة وانهم كفء لإدارة دفة الأمور.
سوف يقول قائل أن الدولة تتجه حاليا لتعيين الشباب في مناصب مساعدين للوزراء ومسئولو الصف الأول في كل مؤسسات الدولة .. حتى لو حدث ذلك وظلت عقلية عدم تفويض السلطة فلن يجدى ذلك شيئا وسوف يحول الشباب إلى "ديكور إدارى" ويزيد من إحباطهم وغضبهم وإصرارهم على الهجرة عند أول فرصة تسنح لهم.
حين اقترحت فى مرحلة ما أن يخضع الوزراء ورؤساء المؤسسات للتدريب على حسن القيادة ونظم الإدارة الحديثة وديناميكيات فرق العمل وطرق قياس الأداء (كان ذلك يحدث على استحياء فى الستينيات من القرن الماضى)، ارتفعت الحواجب دهشة من أن يخضع الوزراء للتدريب، وثار تساؤل : ألا يكفى تدريب النواب والمساعدين رؤساء القطاعات بما ينم عن جهل لضرورة إعداد من يشغل منصبا حساسا يتخذ فيه قرارات تمس مصالح ومقدرات شعب بأكمله.. واضح طبعا أننا لانتعلم من أخطائنا وأنه حين إجراء أى تغيير لمسئول على قمة الهرم الإدارى يكاد التعمل يتوقف وتعم الفوضى حتى نجد البديل الذى يبدأ المشوار من أوله وكأن ماسبقه أصبح تاريخا؟ هل يغيب عن بال المسئولين أنه سوف يأتى على المرءوسين وقت يحسون فيه أنهم قد وصلوا لسن البلوغ والنضج، ويضيقون ذرعا بالوصاية عليهم ويثورون بعد حين على من يفرض عليهم الوصاية فتنقلب أماكن العمل إلى ساحات صراع يدمر ولا يبنى ويخسر فيه الجميع.
لماذا لا يتحول مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء بموظفيه الستمائة والذى لاينتج عملا ذا قيمة تعوض ولو جزء بسيطا مما يصرف عليه مرتبات ومكافآت وأجور .. لماذا لايتحول إلى مركز تدريب للوزراء وكبار المسئولين فى الدولة قبل التعيين ويزود بأحدث المعدات والأجهزة والخبراء من كل أنحاء العالم بما فيها نحن فى مصر وبذلك نرشد المصروفات ونعد عمليا منصة لإطلاق الصواريخ على شكل مسئولين قادرين على القيادة وإحداث التغيير؟