
رابعة | المقال المؤجل.. من يجرؤ على الاعتذار (2)

جمال الجمل
16 أغسطس 2016ملخص المقال الأول:
- التأكيد على أنني كنت من المؤيدين لقرار فض الاعتصام، ومن قبله لقرار عدم ترشح الإخوان للرئاسة التزاما بمبدأ "مشاركة لا مغالبة" الذي أعلنته الجماعة مع تعهد صريح بعدم خوض الانتخابات الرئاسية
- انصراف الإخوان عن حراك الثوار في الميدان، واستدراجهم إلى صراع ثنائي على السلطة مع المجلس العسكري، وهو صراع بدأ بتقاسم السلطة وانتهى بالاستئثار ثم الإطاحة
- تجاهل قادة الجماعة للمسار الفكري والحلول السياسية، وتركيزهم على لغة القوة والتهديد بالعنف، إعمالا للمغالبة وليس للمشاركة.
- دفع قادة الإخوان دفة الأمور بعد 3 يوليو ناحية "التأزم" و"صناعة هولوكست دموي" كمحاولة غالية الثمن لإدانة السلطة الأمنية التي يتصارعون معها، وبخاصة الجيش.
- وانتهى المقال بوصف اعتصام رابعة باعتباره عاصمة مركزية تمسك بها التنظيم كورقة ضغط، حاول من خلالها أن يكتسب قدرة على الصمود والمواجهة والعودة لسدة الحكم، لكن لماذا لم ينجح التنظيم في تحقيق ذلك؟، ولماذا انتهى الاعتصام بمأساة إنسانية وسياسية دامية؟، وهل يصلح شعار رابعة كقلب ومحرك لمشروع سياسي موثوق مؤهل للحكم، ويناسب المجتمع المصري؟، وكيف يمكننا (جميعاً) التعامل مع حالة رابعة باحترام يليق بالإنسانية المتحضرة، بعيدا عن الابتزاز والتحريض وصناعة الكراهية، وإهدار دماء الشهداء؟.
(1)
بعد ساعات من نشر المقال السابق (جذور المأساة) كانت مياهٌ وأوحالٌ كثيرةٌ قد اجتاحت نهر الذكرى، بالرغم من أن الشهادات والآراء التي تم تداولها، ظلت في إطار تصعيد الخلاف بين طرفين، ولم ينظر إليها أحد كخطوة تساعد في تقييم ماحدث، باعتباره تاريخا يمكن البناء عليه لمستقبل أفضل، فقد أعادت منابر كثيرة معادية للإخوان نشر شهادة الشيخ محمد حسان عن رفض الجماعة لفض الاعتصام والدخول في تفاوض سياسي تحت مظلة "خريطة المستقبل" التي أعلنها وزير الدفاع في 3 يوليو، وكان الهدف تسجيل إدانة إجرائية ضد قادة الإخوان وشركائهم الذين انضموا لتحالف دعم الشرعية، وفي المقابل نشر الناشط الإخواني أحمد المغير شهادة وثيقة الصلة بشخصيته المندفعة وتركيبته الانفعالية، أكد فيها أن الاعتصام كان مدججاً بالأسلحة النارية والقنابل اليدوية، وتحدث عن خطة "حربية" للتصدي، تم إعدادها وإقرارها تنظيميا لمواجهة أي محاولةْ فض، لكن قيادات عليا في التنظيم، أصدرت أوامرها بإخلاء الاعتصام من السلاح، وعدم التصدي بشكل تنظيمي لقوات الفض، وأن ما حدث بعد ذلك تصرفات فردية من المعتصمين.
(2)
في رأيي أن كل نلك الأخبار والتراشقات الثنائية، ظلت تعتمد منهج النكاية والتنافس بين طرفين، فلا وساطة الشيخ حسان كانت ستغير أهداف المعركة المحتدمة، (لكنها مجرد وساطة من طرف مسيطر للسماح بإذعان طرف تحت المقصلة)، ولا شهادة المغير تصلح كدليل إدانة شامل لكل المشاركين في الاعتصام، (بل تبقى دليلا على التنوع والتناقض، بحيث يصح أن تكون هناك فرق مسلحة بشكل ذاتي أو بأوامر تنظيمية، كما يصح أن يكون هناك قوام شعبي مسالم، وكل شخص يرى في حدود علاقاته ومعلوماته)، وبالتالي فإن شهادة المغير تفصيلة جزئية، وتدينه بشكل شخصي، هو ومن على شاكلته، خاصة وأنه قريب الصلة بمستويات التنظيم القيادية أكثر من علاقته بالقاعدة الجماهيرية للمعتصمين، لذلك رأيت في خلفية الشهادات وعبارات التراشق أن الفاعل الرئيسي ليس "القاعدة الجماهيرية" في الطرفين بل القيادة المسيطرة، فلا جماهير الإخوان كانت هي صاحبة القرارات (إذا نظرنا للاعتصام باعتباره فعلا سياسيا شعبيا وليس حشداً تنظيميا)، ولا الشعب كله كان صاحب القرار في إطاحة الإخوان (فقد ظهرت الخديعة بعد الفض بشهور قليلة)، حيث بدأ إفساح المجال لعودة نظام مبارك، وتفريغ الثورة الجماهيرية من مضمونها، وتوظيفها في عكس مطالبها، كما حدث مع ثورة يناير، التي اتقلب عليها الطرفان بخطيئة مزدوجة، قبل أن يدب بينهما صراع (يا احنا يا انتو... ومانبقاش رجالة لو.. إلخ)
(3)
في رأيي أن التناول الجنائي لواقعة رابعة، أو النظر إليها من خلال عقلية الصراع وفقط، سيبعدنا كثيرا عن الهدف المنشود، وفي رأيي أن الهدف هو وضع الحدث في إطاره التاريخي والإنساني السليم، لذلك سأؤجل الإجابة عن الأسئلة التي طرحتها في المقال الأول، وأحكي لكم أولا: لماذا اخترت في العنوان تعبير: "المقال المؤجل"؟
(4)
في الخريف التالي لفض اعتصام رابعة، كنت قد ناقشت مع نفسي فكرة حث النظام على تقديم اعتذار إنساني لأهالي ضحايا الاعتصام، كان الرئيس السيسي قد تسلم رسميا مهام منصبه قبل شهور (يونيو 2014) وكان لدي أمل في مصالحة بين الثورة والدولة، يقودها نظام السيسي حسب التعهدات التي أعلنها وفي قلبها "وحدة الثورتين"، لكن المشاعر الشعبية في ذلك الوقت كانت حادة جدا، ومنقسمة بتطرف خطير، ورأيت أن أتدرج في الإعلان عن الفكرة بأسلوب أدبي وفني غير مباشر، قبل أن أطرحها صراحة في نهاية الثلاثية التي خططت لها، وبالفعل نشرت المقال الأول في "المصري اليوم" بتاريخ 24 نوفمبر 2014 تحت عنوان: مروة وماري (العصفور والفيل-1)، وفي ذلك التوقيت حدثت ضجة، وذاعت الأخبار عن مؤامرة كبرى ينفذها تنظيم الإخوان لاقتحام سجون، وتفجير منشآت، والتحرك بحشود وعنف لإعادة الرئيس مرسي للحكم!
كان السيناريو غامضاً، لكن الإعلام فرضه على أذهان الجميع، وساعد في إظهار خطورة ذلك اليوم أن قوات من الجيش انتشرت لتأمين المؤسسات الحيوية، وبدت الصورة قريبة مما حدث قبل أكثر من عام في 30 يونيو 3013، ولم يعد الحديث عن فكرة الاعتذار في هذه الأجواء ممكناً، فكتبت المقال التالي يوم الجمعة 28 نوفمبر بعنوان: 28 نوفمبر (العصفور والفيل-2) وجاء فيه:
(5)
(كنت أودّ أن أقول: إنني أغني للورد والأمطار والسماء، وأكتب برومانسية بالغة عن جماليات العشق، والخجل، والغنج العفيف، وأن أستفيض في قصيدة بطعم السكر، وألوان الفراشات، وفالس الأحبة.. لكن ماذا أفعل، والسماء تلهو بشمس تشوي الفراشات على مهل؟... فلنغنِ إذن لقطٍّ أسود، أو شارع يبتلع المارة، أو فالْس عسكريٍّ يصلح للقتل, أو الإبادة الجماعية للآدميين لصالح الآلة.. لنكتب عن جماليات الهزيمة وتبرير الخيبة)...
الخوف.. ملح في العيون/ ريح حزينة، تغزو بيوت المدينة/ آلة عنف، تنتهك الحرف، وتختزل اللغة إلى درع وسيف!.. 28 نوفمبر يوم عادي لم يتوقف التاريخ عنده من قبل، هاهو اليوم يصرخ محتجا: «أنا هنا»، الكل يتواطا لتدشينه كـ«يوم تاريخي»، بصرف النظر عن حقيقته، يسانده المصحف، كما تسانده البندقية من أجل تدوين نفسه على صفحة في «فصل البكاء»... (يسير التاريخ في مارشات عسكرية/ يزأر في تجهم بالغ ولا ينظر خلفه).. الجند يأكلون لحم الشوارع والحارات، الترقب يحيل الحياة إلى ثكنات.. المحال ثكنات، المقاهي ثكنات، البيوت ثكنات، والطرقات... ثكنات.
(6)
كانت مصر داخل السلاك الشائكة، تحت سيطرة الدبابة والخوذة، ولم نر الإخوان في الشوارع، كانت الخطة لتأمين مصر من غضبنا نحن.. من رد الفعل "شعب الثورتين" على تبرئة القضاء لمبارك وعصابته!
(7)
كانت أشعار الصديقة مروة أبو ضيف هي لؤلؤة المقال الثاني، كما كان حبها للفيل ككائن طيب (حسب رؤيتها) هو قلب المقال الأول، والدافع الرئيسي لسلسلة المقالات التي خططت لها.. ففي مثل هذا الوقت قبل مائة عام، وفي أجواء متابعة العالم لأخبار الحرب العالمية الأولى، جرت في ولاية تينسي الأمريكية وقائع الحادثة التي اتخذتها مدخلا للتعبير عن فكرة الاعتذار عن العنف، باعتباره حتمية ضميرية لابد منها عاجلاً أو آجلاً، والحكاية باختصار أن صاحب سيرك أمريكي يدعى «تشارلي سباركس» كان يتباهى بامتلاك فيلة أسيوية أطلق عليها اسم «ماري»، وقدمها في حملة دعاية كبيرة كأضخم كائن حي على وجه الأرض، حتى أصبحت أهم العوامل في جذب الجمهور للسيرك، وذات يوم (في سبتمبر 1916) خرج موكب السيرك في جولة ترويجية، أثناء سير الموكب لمحت "ماري" بقايا بطيخ على جانب الطريق، فعرجت لتأكلها، لكن الحارس الجديد "ريد" عاملها بعنف ووخزها بحربة كانت في يده ليجبرها على الاستمرار في تقديم حركات العرض للجمهور المحتشد على جانبي بلدة صغيرة بولاية تينيسي، ومع التعامل العنيف للعامل غير المدرب أصيبت الفيلة بنوبة هياج عارمة، واقتلعت جذع شجرة وضربت به مدربها، ثم لفت زلومتها حولها ورفعته في الهواء وألقت به على الأرض وداست على جسده ورأسه، وسط ذهول الجمهور الذي انطلق في الصراخ: اقتلوا الفيل.. اقتلوا الفيل..
(8)
تدخل مدربو الحيوانات لتهدئة "ماري"، والحد من أي خسائر بشرية أخرى، لكن الهوس تصاعد، وخرج من حدود البلدة الصغيرة ليشمل الولاية ومدن أخرى، وشارك الإعلام في تأجيج الموقف، وأصبح إعدام "الفيل القاتل" مطلبا جماهيرياً، رضخ له صاحب السيرك بعد ممانعة بسيطة، فقد ركب المسؤولون موجة مشاعر الانتقام السائدة، وهددوا بوقف تصريح السيرك وإلغاء عروضه إذا لم يتم معاقبة القاتل بالقتل، استقرت الجموع على هذا القرار، وتحولت النقاشات إلى الأمور الفنية المتعلقة بطريقة الإعدام، فقد حاول مواطن إطلاق الرصاص على الفيلة لكن جلدها السميك جعل الإصابة غير مؤثرة، فاقترح البعض صعقها بالكهرباء، لكن النتيجة لم تكن مضمونة، فاقترح آخرون ربط أطرافها بسلاسل حديدية مشبوكة بين قطارين متعاكسين في الاتجاه لتمزيقها، وأخيرا وصل القرار إلى الإعدام شنقًا في ميدان عام قرب موقع الحادث ببلدة اروين، احتشد الآلاف لمشاهدة لحظة تنفيذ العقاب باستخدام رافعة عملاقة، لكن السلاسل انقطعت وسقطت الفيلة الضخمة من ارتفاع شاهق وتحطت عظامها، وببشاعة تخجل منها الإنسانية تم إعادة المحاولة وإعدام ماري المصابة وسط صيحات هيستيرية من الجمهور المشحون بهوس الانتقام.
(9)
الحياة عادة ليست دائما في اتجاه واحد، والبشر ليسوا كتلة صماء، فقد أثر المشهد عاطفياً في كثيرين، وذرف بعضهم الدموع، فيما حرص المصورون المحترفون على استثمار الحادث تجاريا والتقطوا الصور لمن يرغب مع الفيلة القاتلة/المقتولة، تناقل الناس القصة على مر السنين، وتبقت لقطات مصورة سينمائيا لحادث الإعدام، الذي تحول مع الوقت إلى وخزة في الضمير الإنساني، وعارٌ يستوجب الاعتذار والتكفير عن الخطأ، وتم تأليف عشرات الأغاني والمسرحيات عن يوم إعدام ماري، لجورج برانت، وكاليب لويس، شارين ماكرومب، ودانا أدم، وتحول قبرها إلى مزار يتوافد إليه بشر لتقديم الاعتذار عن همجية وانتقام بشر آخرين كانوا في نوبة انفعال واندفاع.
(10)
كيف يمكن أن يتحول هوس الانتقام، والمطالبة بالإعدام إلى اعتذار على نفس الحدث؟!.. هل هذا بفعل مرور الزمن فقط؟، أم أن الزمن يكشف لنا فقط عن المشاعر القويمة، بعد ان تنحرف لأسباب قوية تؤثر على البشر وتدفعهم إلى ذلك الهوس المحموم؟
(11)
لن اتصدى للإجابة وحدي، فقد اهتم كثير من المفكرين وعلماء النفس والاجتماع والمؤرخين أيضا بتحليل حادث إعدام "ماري" التي تحول اسمها للتبجيل بعد الاعتذار إلى "بيج ماري"، ففي تلك السنوات كانت أمريكا تشن حملات دعائية ضخمة لإقناع سكانها بالانضمام للقوات الأوروبية التي تواجه ألمانيا في الحرب الأولى، وكان العالم يتغير بشدة ويعيش أجواء كابوسية من القلق، مع انتشار المذاهب السيريالية والدادية، وسطوة موسيقى الجاز، وسلوكيات التهكم والهزليات واللاعقلانية، كانت الجماهير مشحونة دون ان تدري بغريزة العنف، فالسلطات العليا تستخدم أدواتها الطاعية لدفع الناس نحو تقبل فكرة الحرب، وتدمير الأعداء، والانتقام من "قوى الشر"، فلم يلتفت أحد إلا بعد سنوات طويلة لتقرير الطبيب البيطري الذي تضمنته التحقيقات والذي اثبت إصابة "ماري" بجروج شديدة الألم، نتيجة طعن العامل غير المدرَب "ريد" لها، بحربة حديدية خلف أذنها، مما أدى إلى هياجها وارتكابها لذلك العنف القاتل.
(12)
هذه القصة ليست تبريرا لطرف ضد طرف، لكنها إضاءة إنسانية تضعنا أمام فكرة تحول المشاعر مع الزمن، بعد التطهر من هوس الانتقام، والأهم انها تضعنا أمام فكرة الاعتذار عن القتل، وعن العنف بكل أشكاله، كفكرة تثبت أن الإنسان (مهما تغابى وتبلد لبعض الوقت) فإن له ضميرٌ، ينام ولا يموت، لذا يجب أن نعمل حسابا لليوم الذي سيستيقظ فيه ذلك الضمير النائم.
وللحديث بقية.
tamahi@hotmail.com