
تأجيل المؤجل..
وطن في غيبوية ورئيس في فقاعة

جمال الجمل
26 أغسطس 2016(1)
كان من المفترض أن أستكمل في الأسبوع الماضي مقالي المؤجل عن ملابسات وتداعيات فض اعتصام ميدان رابعة العدوية، لكنني آثرت تأجيل كلماتي للمرة الثالثة، فالوطن في غيبوبة، وليس من المجدي أن نفتح نقاشاً، أو نتحدث في قضايا مصيرية، طالما هذه الغيبوبة مستمرة، فهي تحتاج أولا إلى ممارسات أخرى لمساعدة الوطن على الإفاقة.
(2)
أعرف أن عمليات الإفاقة ذاتها، ليست محل اتفاق، وكذلك أساليب الإفاقة، فهناك من يسعى (بقصد أو بغباء) لتجميد حال الوطن على ما هو عليه.. "شبه جثة" و"شبه كائن حي"، فهناك من يستفيد من غيبوبة الوطن ولا يريد شفاءه ولا موته، وهناك من يفكر في التركة، ويتمنى التعجيل بموت الوطن، وهناك من يسعى بإخلاص لإفاقته بالوسائل الهادئة من أدوية وغمز ولمس وهمس، وصولا إلى استخدام الصدمات، وفي مثل هذه الظروف، يستحسن تأجيل بعض القضايا لوقتها المناسب، وقد رأيت، وقرأت، وسمعت، ما يؤكد لي أن الحديث المخلص (الذي يبحث عن أفق للمستقبل في قضية رابعة وما يترتب عليها)، لم يأت أوانه بعد، فالسلطة سادرة في غيها، تواصل إطلاق إشارات الكراهية الغامضة، وتواصل استخدام "الفزاعات" وتوسيع مساحات الشك والريبة بين المواطنين، وتقسمهم (نفس قسمة المتطرفين من خصومها) بين فسطاطين: موالاة من أهل الخير، ومعارضة من أهل الشر، وبطبيعة الحال فإن أنصارها يجاملونها بتعميق ذلك الانقسام، وهو ما يحول دون التوصل لنقطة بدء مشتركة، تمهد الطريق إلى رتق الخروق والتمزقات التي أضرت بالنسيج الوطني.
وأنا هنا لا أقصر الحديث على مصالحة بين ما يسمى "الدولة" وبين قوى سياسية في القلب منها جماعة الإخوان، بل أشير بوضوح إلى الشروخ العميقة التي تهدد التجانس النفسي والاجتماعي بين المواطنين، وأحذر من خطورة ذلك على المجتمع، وعلى الدولة نفسها، إذ لا يوجد دولة صحيحة تنظر إلى مواطنيها بهذه التفرقة النفسية والإعلامية والسياسية والأمنية، لأن هذا يؤدي بالضرورة إلى ظهور حالات تمييز مرفوضة دوليا بحكم المواثيق الأممية، وفي رأيي أن حالات التمييز التي لا تخجل السلطة من استخدامها ضد كل معارضيها، قد تجاوزت الخطاب الإعلامي والسياسي، وعكست نفسها في تشريعات (أظنها بدأت بسن قانون منع التظاهر، حتى وصلت إلى استخدام القضاء في الصراع السياسي) ما يضع الدولة في طور متخلف عن العصر، يجعلها عرضة للتنديد واللوم، والعقاب التصاعدي.
(3)
أتذكر أنني وغيري من الكتاب الأفاضل والسياسيين المستقلين، وعدد من رموز العمل النقابي، قد حذرنا من اتجاه النظام لإغلاق المجال العام، وتقييد الحريات بحجة تأمين المجتمع من الإرهاب ومخاطره، لكن السياسة كالسباحة فعل علني يصعب إخفاؤه أو المجاملة فيه، وقد ظهر بوضوح أن النظام يتعمد هذا التضييق، وهذا الإغلاق، فالرئيس لديه تصورات انكفائية يخلط فيها بين معسكر الجنود (القشلاق) وبين فضاء المجتمع، لذلك يقود المجتمع بعنف نحو صيغة تنفيذ الأوامر قبل أي تظلم، يفكر في الطاعة وليس في الحوار، الولاء للحاكم شرط الانتماء للوطن، لا يتصور ثقافة مفتوحة تغري بالحوار والنقاش والتجديد، بالعكس يدعو إلى تجديد الخطاب الديني، وتشهد فترته القصيرة أكبر عدد من سجناء الرأي، ومعاقبة المجتمهدين بأفكارهم، يتحدث كثيرا عن الإعلام ودوره في خدمة القضايا الوطنية، ثم يخنق هذا الإعلام ويضيق بالنقد الشعبي على صفحات التواصل الاجتماعي، ويرى كل فكرة معارضة هي فكرة لضرب الوطن، والمؤسف تصوراته التي يكررها عن الإعلام الوطني لا تخرج عن الإعلام التعبوي وفرق "الطبلخانة" التي تشيد بالإنجازات تحت خديعة "التفكير الإيجابي".
(4)
في أحدث طلاته الإعلامية، بدا واضحاً أن السيسي كان يؤهل نفسه لهذه "النفخة الكدابة" قبل فترة كافية من تنصيبه رئيسا، فليس من المعقول ولا المنطقي، أن يدخل أي إنسان "فقاعة العظمة الذاتية" ويتقمص دور "الديكتاتور الملهم" بهذه السرعة الفائقة، لكن هذا ما حدث، وهو أمر يحتاج إلى بحث ومعلومات، وعلاج أيضا.. علاج سياسي وإعلامي وبروتوكولي، ونفسي أيضا، وهذا ليس عيبا، فمعظم رؤساء ومسؤولي الدول لديهم أطباء نفسيين، ولديهم أجهزة معاونة ومستشارين، لضبط إيقاع الأداء وخريطة الحركة الميدانية، والمظهر العام وجرعة الطلات الإعلامية ومحتواها، ولغة الخطاب السياسي، ووسائل تدعيم الصورة الجماهيرية والحفاظ على الكاريزما، لكن أداء السيسي يكشف أن شيئا من هذا لا يحدث، وقصر الحكم يُدار بطريقة "الهمة يارجالة.. عاوزين إنجاز بأسرع وقت".
والمؤسف أكثر أن الرئيس لم يشغل نفسه ولا معاونيه بأسئلة من نوع: ما هو الإنجاز؟، وما علاقته بحياة الناس؟، وما موقعه من النسق العام لتصور مستقبل الوطن؟، لذلك فإن السيسي يتصور أنه يعمل بكد وإخلاص، وأنه حقق معجزات في وقت قياسي، لكنه يعاني من شعب جاحد ينكر إنجازاته، ومن إعلام مقصر لم يستطع أن يحشد الجمهور حول الرئيس ويظهر لهم مدى عظمة إنجازاته، لذلك خرجت تصريحات رئيس من داخل الفقاعة، وكأنه يتحدث إلى شعب في خياله، شعب لا يعاني من سوء الخدمات، وارتفاع الأسعار، وافتقاد أي تصور للمستقبل.. شعب من المعجبين بعظمته ونجوميته، يحملون الأوتوجرافات للحصول على توقيعه أو صورة معه، ليتفاخروا بها أمام الجيران والأقارب، لذلك قال الرئيس المعزول داخل فقاعة السلطة إن لديه شروطاً، لكي يتكرم ويقبل أن يترشح لفترة ثانية.!
(5)
و بما أن الغيبوبة وصلت إلى هذه الدرجة، أعتقد أن من حقي (ومن العقل) أن أتوقف عن مخاطبة هذا النظام، فالمصالحة الاجتماعية ليست توسلاً من طرف لطرف، وليست منحة تتكرم بها السلطة في الأعياد والمناسبات القومية، فإذا لم يدرك رأس النظام (الذي تلا البيان الشهير محذرا من المخاطر الشديدة التي تهدد الأمن القومي)، أن تفسخ المجتمع في مقدمة هذه المخاطر، وأن الاعتداء على مبدأ المواطنة جريمة ضد الدولة، وإذا لم يسأل طوال هذه المدة عن مسار لجان التقصي في قتل الشهداء من يناير وحتى اليوم، ويطالب بإنجاز التحقيقات في "فض رابعة" وغيرها من الأحداث التي تحتاج إلى تحقيقات نزيهة، أو إعلان نتائج التحقيقات إذا كانت قد تمت، إذا لم ينتبه الرئيس لمخاطر إغلاق المجال العام، وإذا لم يتوقف عن تأميم الحريات الفردية والسياسية، وإذا لم يسمع شروط الشعب قبل أن "يتحفنا" بشروطه، فإن الكلام إليه لابد أن يتوقف، وفي هذه الحالة لن يكون عندي له إلا كلمة واحدة: فاشل.
(6)
أيها الرئيس.. لست خصما لك، ولا لسواك، أنا مواطن لا يصارع على سلطة، ولا يضغط من أجل مصلحة فردية، أنا مواطن حريص على بلدي، وعلى مستقبل أولادي وأحفادي فيها، ولن أجامل أحداً، أو أخشى أحدا في سبيل الحفاظ على هذا المستقبل، وإذا كان لديك من الضرورات ما تتعلل به لتأخير الاهتمام بالوطن وناس الوطن، فلا حاجة لنا إلى قيادتك، ولا إلى ضرورات، فأنا ممن يعتقدون بأن "المقاتل" الذي يفشل في تحقيق النصر، عليه أن يسعى لتقليل الخسائر، ويفكر سريعاً في خطة الانسحاب.
فإما... وإما.......
tamahi@hotmail.com