أحمد فرحات: هبوط الذوق وراء تراجع القصائد المغناة.. وكاظم دليل صمودها
"القصيدة المغناة" كانت شغله الشاغل، عكف على دراستها وتذوقها وتوضيح مدى بلاغتها، وأثرها في الضمير العربي، ليخرج علينا بكتاب شامل جامع بعنوان " القصيدة المغناة في الشعر العربي" أنه الناقد الأدبي الدكتور أحمد فرحات.
ويرى الدكتور أحمد فرحات أن الشعر العظيم يلزم له قدر عظيم من الذوق، وإذا فسد الذوق فسد الاختيار، وفسدت الأغنية وأظهرت عوار المغني والشاعر والملحن.
وشددت الناقد الأدبي على ضرورة الاختيار فليست كل قصيدة صالحة للغناء، لافتًا أن الألحان خير الدنيا والآخرة، ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق، وقد يبكى بها الرجل على خطيئته، ويرق القلب من قسوته، ويتذكر نعيم الملكوت ويمثله فى ضميره.
والناقد الأدبي الدكتور أحمد فرحات، باحثًا أكاديميًا بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، ويشغل حاليا منصب أستاذ في كلية الفارابي بجدة، مسيرته الأدبية والنقدية غنية بالمؤلفات الأكاديمية والدراسات والمقالات، وكما أصدر عدة كتب منها: ديوان "المنصفات في الشعر العربي"، وكتاب "الخطاب الشعري في المدينة المنورة" من جزئين، وكتاب "التعبير الوظيفي والإبداعي".
* ما السبب وراء اختفاء القصيدة المغناة رغم ازدهارها في القرن الماضي؟
في البداية، أود أن أوضح الفرق بين اختفاء أوقلة أو ندرة القصيدة المغناة، فالقصيدة المغناة لم تختف فهي موجودة على الساحة الغنائية وتحتل مكانتها، لكن لم تعد كما كانت في السابق لعدة أسباب، منها أن الجمهور المتلقي لهذه النوعية من القصائد بات متسرعًا في أموره وشؤونه تمشيًا مع عجلة الحياة التي أصبحت تدور أسرع من ذي قبل، ومنها أيضا هبوط الذوق العام لهذا الجمهور فغدا يقبل على قرع الطبول المتسارع، والموسيقا الصاخبة، والكلمات المتدنية نتيجة تدهور التعليم والثقافة في المدارس والجامعات، ومنها أيضا أحادية التلقي وأعني بها ذيوع ثقافة الفوضى والقلق نتيجة ما تمر به البلاد من معاناة وتدني مستوى المعيشة الذي أصبح غالبا على الذوق العام.
* بما تفسر قلة اهتمام المطربين العرب بالقصيدة المغناة؟
القصيدة المغناة نص يحتاج إلى تعليم وثقافة وتدريب، وهذا يختلف عن النص العادي المكتوب باللهجة العامية، التي يكثر الاهتمام بها من قبل المطربين، أيا كانت درجة ثقافتهم، والقصيدة المغناة لا يقبل عليها إلا من رافق الشعراء واستمع إليهم إلقاءً وأداءً، وهي نص خالد يعيش طويلًا، مهما مرت عليه السنون، وهذا بالطبع لا يعني أننا نوازن بين القصيدة المغناة والنص باللهجة العامية، فلكل اهتماماته وسحره على الجمهور.
* ماهي الإمكانيات التي يتطلبها غناء القصيدة ؟
تكمن القيمة الحقيقة في القصيدة المغناة أنها تساعد على انتشار الشعر والأدب في أكبر قطاع من الجمهور، وأنها تعمل عمل المدرسة والجامعة في الجمهور، فتؤدي دورهما في القيام بتثقيف الناس، وترقية أذواقهم، وتلبي حاجة نفسية في ضمير المجتمع، ومن جهة أخرى فإنها تحافظ على اللغة من الابتذال والسوقية التي تفشت في المجتمع جراء استعمال كلمات هابطة دون المستوى، وللقصيدة المغناة دور في إثارة الحماس لدى الجمهور، خاصة إذا كانت الكلمات من النوع الوطني الحماسي، وتعمل على رقي الذوق لدى الكبار والصغار، فتوجهم توجها محافظا.
* هل القصائد المغناة تناسب الجمهور ذو الثقافة الشعبية؟
تراعي القصيدة المغناة الجمهور بشكل مباشر، فهي نص يخلق حالة نفسية تشعرك بالرضا أو السخط أو الحب أو إشعال الحماس أو القناعة، يستوي في ذلك الأمير والخفير، العامل والفلاح، المثقف وغير المثقف، فكم من فلاح يعمل في حقله ويترنم بكلمات لا يعرف مدلولها، وطالما ترنم الفلاح بـ"يا حبيبا زرت يوما أيكه" أو بـ"والنواسي عانق الخياما" أو بـ"وعدونا فسبقنا ظلنا" أو بـ"ما ضر لو جعلت كأسي مراشفها، ولو سقتني بصاف من حمياها".
في رأيك.. هل يتقبل الجمهور هذا النوع من الغناء حاليًا؟
الجمهور العادي لن يتقبل هذا النوع لأنه مشغول باهتمامات أخرى، فلم يعد الجمهور القديم الذي يعود إلى منزله عصرًا مفضلًا الجلوس مع أسرته والاستماع إلى الراديو والغناء، بل أصبح الجمهور الآن في الشارع، وفي التاكسي، والميكروباص، والمقاهي، فحركة إيقاع العصر تغيرت، ومن هنا فلن يقبل الجمهور العادي على هذا النوع من الغناء.
* هذا يعني أن القصيدة المغناة في طريقها للانقراض؟
لا، فوسط هذا الزخم العصري الحاضر وجدت القصيدة المغناة طريقها إلى الجمهور النخبوي، الذي يعتمد على تذوق الكلمة واللحنن والصوت، وقامرت بعض الأصوات بتاريخها وقدمت هذا الضرب في ذلك العصر، فحققت نجاحًا وتجاوبًا مع الجمهور عامة، والجمهور النخبوي خاصة.
فكاظم الساهر مثلًا وجد ضالته في شعر نزار قباني فشرع يؤدي قصائده بشكل طيب، وتمشيًا مع العصر أصبحت قصيدته المغناة لا تتجاوز خمس دقائق، وسريعة الإيقاع، لكنها تترك أثرا في الجمهور ويقبل عليها، مثل: "هل عندك شك، أكرهها، يدك التي حطت على كتفي، كوني امرأة خطرة، لم يحدث أبدا، أنا وليلى"، وغيرها من القصائد ذات الإيقاع السريع، والمعنى الجميل، والأداء المتوازن، وتبعته أمال ماهر بعدد لا بأس به، وماجدة الرومي، وأمل الوزاني، ونبيلة معان، ولطيفة رأفت، وأنغام، ومحمد عبده، وغيرهم الكثير معنى ذلك أن القصيدة المغناة موجودة على الساحة الغنائية العربية ولكنها قليلة.
* قطاع كبير يستمع لأغاني أم كلثوم وعبد الحليم.. هل هذا حنين لهذه النوعية؟
الرجوع إلى القصيدة المغناة أمر يتطلب ثلاثة عناصر، الصوت الحسن، واللحن الجميل المؤثر، والكلمة العذبة، فإذا توافرت هذه العناصر مجتمعة في آن واحد أضمن لها جمهورًا عظيمًا.
* كيف ترى مكانة الشعر بين الأشكال الأدبية الأخرى؟
كان الشعر قديما هو ديوان العرب، وحافظ أسراها، ووعاء ذخائرها ومجدها، لكنه الآن تراجع دوره تراجعا ملحوظا على حساب الرواية والقصة، حتى الشعر نفسه الآن أصبح يعاني من منشئه، فتارة يكتبون على أشكال تقليدية كلاسيكية، وتارة يكتبون على غير شكل، وبينهما ضروب وأفانين افتتن بها شعراؤه، ونسجوا عليها، ومع تطور الرواية والقصة حاليا فر بعض الشعراء من الشعر، ولاذوا للرواية والقصة، متخذين منها متنفسًا كبيرًا، لكن يبقى الشعر هو الشعر، الفن الراقي الساحر.
* من هنا يمكن أن نعمم مقولة أننا في زمن الرواية؟
لا نستطيع أن نحمل الأمور فوق طاقتها، فالراوية شكل من أشكال الأدب لها جمهورها وأهلها، والشعر شكل آخر، يشتركان معًا في أنهما من فنون القول الإبداعي، ويختلفان في الوسائل والتقنيات، صحيح كثرة الرواية توحي بأنها هي الأبقى الآن لكن للشعر أهله وجمهوره الذي لن يندثر أبدا، فهو فن العربية الأول، ولن تستطيع الرواية زحزحة الشعر عن مكانته ؛ فالشعر لغة النخبة، والرواية لغة العامة.
* تقييمك لوضع الشعر في مصر والمنطقة العربية؟
يذهب بعض النقاد إلى أن النظر إلى الشعر الجاهلي مثلا لم يفرز أعدادا كبيرة من الشعراء الكبار، أصحاب الهمم كامرئ القيس وعنترة وطرفة والأعشى، حتى وصل إلى العصر الحديث ورأى أن عدد الشعراء الكبار يمكنك أن تعدهم على اليد الواحدة، والحقيقة أن هذه الرؤية ضيقة للغاية.
ففي الشعر الجاهلي مثلا هناك أسماء شعراء لم يعرفهم المتخصص نفسه، وهي أسماء غير الشائع منها والذائع، ولها باع طويل في ميدان الشعر العربي، استطعت أن أقدمها للجمهور المتخصص في دراسة لي حول الشعر الجاهلي، وأذكر من هؤلاء الشعراء عبد الشارق بن عبد العزى، والمُفَضّل النُّكْرِيّ، وعَوف بن الأحْوَص، وعمرو بن قَمَيئَة، و خِدَاشُ بن زُهَير، والعُدَيل بن الفَرْخ، وامْرُؤ القَيس السكوني، و أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت، وأوس بن حَجَر وغيرهم، وجلهم مجهولون عسى أن يعرف دارسو الشعر العربي هذه الأسماء وتنال من رضاهم كما نالت أسماء كامرئ القيس والنابغة.
وأستطيع أن أسحب هذا الرأي بكل ثقة على الشعر العربي في العصر الحديث، فالمكتبة العربية عامرة بأسماء الشعراء الكبار، الذين لا يلقون بالًا من النقاد، الذين طحنهم الجوع والعطش وشظف العيش، ولكنهم أخرجوا لنا أعمالا ترقى إلى مصاف الكبار من الشعراء الجاهليين والعباسيين، إن باحثا مدققا لو أنه نبش عن هؤلاء لما عناه جهد وما أخطأت عينه، وإني لأخشى أن أذكر أسماء حتى لا يغيب عني أحد من هؤلاء .
* ما مشروعاتك الأدبية خلال الفترة القادمة ؟
أعكف الآن على دراسة الوضع الشعري الراهن، محددا أزماته، وقضاياه الفنية والموضوعية، ولدي كتاب قيد النشر الآن وهو بعنوان "صفحات من كتاب الموت.. دراسة في الظاهرة الأدبية".