حكاية معلمات شمال سيناء.. الدرس على وقع الرصاص
كانت عقارب الساعة وقتها تشير للحادية عشر ظهرا، منتصف اليوم الدراسي بمدرسة الشلاق الإعدادية المشتركة، جنوبي الشيخ زويد، فجأة تصاعد صراخ التلاميذ من الفصول، وهرول الجميع على السلالم، ليستقر الحال بهم تحت المقاعد الدراسية بالطابق الأرضي.
لا يزال اليوم عالقا في ذاكرة، سميرة "اسم مستعار" المعلمة بالمدرسة الواقعة أمام كمين شلاق، وقتها اشتبك مسلحون تابعون لتنظيم داعش الإرهابي، مع قوة التأمين الموجودة بالكمين، لتصل الرصاصات إلى داخل الفصول الدراسية، وتهشم زجاج النوافذ، وتدمر بعض أجزاء واجهة المدرسة.
رفح.. مسلحون يعترضون حافلة تقل معلمات ويطالبوهن بارتداء النقاب
سميرة التي لا تستطيع أن تنسى تلك الواقعة تصل يوميا عملها في التاسعة صباحا بالشيخ زويد منذ عامين ، بعدما تقطع رحلة محفوفة بالمخاطر بين العريش والشيخ، كما تسميها بسبب الوقوف المتكرر أمام الكمائن التي من الوارد أن تتعطل لساعات بسبب الأوضاع الأمنية، وتضطر للوقوف ساعات أخرى على طريق مهجور حتى تجد سيارة أجرة تحملها من وإلى منزلها.
واقع سميرة التي طلبت عدم ذكر اسمها صراحة خوفا من التتبع من قبل الجماعات الإرهابية هناك، أو حتى الاستهداف من قبل قوات الأمن، مُر كما تصفه، في كل صباح لا تعلم إذا ما كانت ستعود لأسرتها مرة أخرى أم أن رصاصة طائشة أو موجهة ستصلها.
أكثر ما يفزعها هي وباقي زميلاتها ما حدث مؤخرا لبعضهن وهن في الطريق لعملهن بمدينة رفح، حيث اعترض مسلحون تابعون لتنظيم داعش، حافلة كانت تقلهن ومنعوهن من المرور، وطلبن منهن إرتداء النقاب، واصطحاب مَحرم معهن، وصدرت الأوامر للرجال بإطلاق اللحية واسبال الثياب "تقصيرها".
احتجاج لبعض معلمات العريش أمام مكتب المحافظ
معاملة قوات الجيش المنتشرة على طول الطريق في الغالب تكون جيدة، بعضهم يتدخل لتوقيف سيارات لمساعدة المعلمات في العودة لبيوتهن، حدث ذلك أكثر من مرة لسميرة، لكن غيرهم ربما ينظر لأهالي سيناء على أنهم يؤون إرهابيين.
تحكي "سميرة" بأن الأوضاع عادت للهدوء بمدينة الشيخ زويد، وقلت حدة العمليات الإرهابية هناك، إلا أن الوضع بات مأزوما في العريش خصوصا في الأيام الأخيرة بعد نزوح بعض الأسر من هناك وصدرت تهديدات مباشرة للعديد منهم.
"سميرة" تقول، إن التلاميذ في المدراس سواء في العريش أو الشيخ زويد، اعتادوا على أصوات مدافع الرشاش، وأزيز المروحيات، القريب جدا منهم، وبريق القنابل الضوئية ليلا، إلا أن أعدادهم في الفصول تراجعت بشكل ملحوظ.
في غالبية الأيام تضطر إدارة المدرس بشمال سيناء لإلغاء اليوم الدراسي خوفا على التلاميذ، أو السماح لهم بالعودة من منتصف اليوم إذا ما حدثت اشتباكات بالأسلحة الثقيلة، قريبة منهم، لكن سميرة مازالت تذكر ما حدث ﻹحدى الطالبات بالفصل الدراسي المنصرم.
في منتصف الفصل الدراسي الأول تعرض منزل إحدى الطالبات بالشيخ زويد للقصف وسقطت قذيفة على منزلها ودخلت على أثرها المستشفى وتخلفت عن موعد امتحاناتها لحجزها للعلاج.
الإرهابيون في الشيخ زويد يبدو أنهم يتوغلون في وسط الأهالي، ولا يمكن التفريق بينهم وبين السكان، هكذا تقر المعلمة مستدلة على ذلك بأنهم قادرون على معرفة معلومات عن جميع الموجودين بالمكان ويعاقبون من يصل إلى عملهم أنه يتعاون مع الأمن، يصل العقاب أحيانا للتصفية.
عمليات النزوح من العريش مرفوضة، لأن ذلك هو ما يريده الإرهابيون، لكن "سميرة" تنوه إلى أن الأطفال بالمثلث الملتهب ( العريش رفح الشيخ زويد) محرومون من أبسط حقوقهم.
بعضهم ضُربت مدارسهم برفح، واضطروا للانتقال لمدراس أخرى أو استكمال الدراسة بالمساجد، أو الوحدات الصحية، وحدث ذلك في أيام الامتحانات - بحسب "سميرة".
الحكاية تبدو أكثر مأساوية عند "هدى"، "اسم مستعار"، التي عملت لعامين في مدينة الشيخ زويد، وقت أن كان الإرهاب متمركز بالمدينة، واستطاعت بعد تدخل الواسطة الانتقال للعريش لتكون قريبة من محل إقامتها.
"هدي" لديها القدرة على وصف أشكال الإرهابيين بشكل مفصل، فغالبيتهم من الشباب الملتحين، ولهم أجسام رياضية، وفي الغالب إما أنهم ينصبون كمائن على الطرقات للبحث عن أشخاص مطلوبين لديهم، أو يتجولون على درجات نارية بالشوارع.
واقعة فرض النقاب على معلمات رفح، ليست غريبة على "هدى" فقبلها بعامين رفض أحد السائقين بالشيخ زويد أن يحملها هي وزميلاتها إلى الطريق الرئيسي، ﻷنهن بحسبه متبرجات ولا ترتدين النقاب، وتفسر ذلك بأن الرجل ربما ليس إرهابيا لكنه متأثر بأفكار التنظيم.
الرصاصات الطائشة
أصعب المواقف التي تعرضت لها "هدى" وقع قبل عامين، فتعرضت ﻹطلاق نار عشوائي بجوار قدمها وهي تنتظر سيارة الأجرة في طريق العودة من الشيخ زويد للعريش، "موقف لايمكن أنساه وقتها شعرت أن الموت اقترب جدا".
تراجع أعداد الطلاب بالمدارس هناك يؤرق العاملين في مجال التدريس، ففي بداية العام الدراسي الحالي كان أمام "هدى" في الفصل، قرابة 60 من الطلاب، إلا أنهم تراجعوا حاليا لـ12 فقط.
وتفسر ذلك، بأن غالبية الأسر تمنع أطفالها من الذهاب للمدارس خوفا عليهم، والكثير من الأسر نزح جزءً منها إلى القاهرة والإسماعيلية.
معلمات عالقات على الكمائن
لا تقف رصاصات الخوف للمعلمات في سيناء على الطريق فقط، أو حتى في الطلقات العشوائية التي تصوب نحوهن، فالوضع أمام الكمائن الأمنية ربما يكون أخطر، مما سبق.
آخر مرة وقفت فيها "هدى" أمام أحد الأكمنة الأمنية امتد الأمر لقرابة الساعة 7مساءً وكانت شبكات الاتصال مقطوعة.
تقول: "العساكر حجزونا خوفنا علينا من تفجير بعض الألغام التي زرعت على مقربة من الكمين، لكن أصوات الانفجار بدأت تقترب تدريجا".
وقتها انهارت إحدى المعلمات في الحافلة وأخرجت هاتفها واتصلت بأمها وبدأت في الصراخ وهي تودعها، بكلمات قاسية اعتقادا منها أن التفجير القادم سيكون بالسيارة، وأنها لن تعود لأسرتها مرة أخرى.
تلاميذ سيناء
الوضع ربما يشتد على أطفال سيناء العابرون في ميادين الإرهاب كل صباح، أحدهم بحسب المعلمة "هدى"، فقد جزء من عقله نتيجة لصدمة عصبية، "كان طالبا جيدا ضمن تلاميذ الصف السادس الابتدائي، إلا أنه عاد قبل عام ونصف ليجد قذيفة دمرت منزله وماتت أمه وأصيب أخيه".
بعد الحادث، بدت تصرفات التلميذ غير طبيعية، تقول "هدى" إنها فسرت ذلك بأنه ربما راجع " لشقاوة الأطفال" إلا أنها تلقت مناشدات من أهله وباقي أصدقائه بالتعامل معه برفق ﻷنه متأثر نفسيا بموت والدته أمامه.
بعد تفاقم الأوضاع بالشيخ زويد أغلقت الطرق الرئيسية، واضطر الجميع لاتخاذ طرق جانبية، مهجورة غالبيتها في قلب الصحراء ومزارع الزيتون المهجورة.
قتل بالخطأ
المخاطر لا تقف عند المعلمات في سيناء، فالأمر يطول الرجال فقبل أشهر وقت امتحان نصف العام الدراسي، وأثناء تنقل "هدى" في سيارة أجرة بأحد الطرقات شاهدت جثة لمعلم زميل لها ملقاه على الأرض.
علمت بعدها أنه تأخر في مدرسته بسبب تصحيح أوراق امتحانات الطلاب، ووقتها كان البرد قارص بالشيخ زويد مما اضطره لتلثيم نفسه "بكوفية" كان يرتديها مستقلا دراجة نارية، ومع سرعته اقتربت منه دورية أمنية واشتبهوا به وأطلقوا عليه الرصاص.
"هدى" تتذكر أيضًا معلم الحاسب الآلي بمدرستها الذي قتل في مايو الماضي، برصاصة طائشة وقت توزيعه لبعض البضائع على المحال التجارية، حيث كان يعمل عقب انتهاء يومه الدراسي في توزيع السلع الغذائية.
عقاب التعامل مع الأمن
مؤخرا بات التعامل مع الأمن محفوفا بالمخاطر، وربما يعرض صاحبه للقتل ذبحا أمام أهله، فقبل أيام رفض أحد الأهالي إحضار وجبة إفطار لأحد المجندين بكمين بمنطقة شارع البحر بالعريش، وكان الجندي قد اعتاد على إحضار طعامه على يد الرجل، من أحد المطاعم القريبة، إلا أنه خاف من تتبع الإرهابيين له ومعاقبته.
الجميع في العريش ينتظر الموت فالرصاصات التي تتفاداها في عملك أو الشارع ربما تدخل لغرفة نومك، تحكي "هدى" عن ابتعادهم داخل المنازل عن التواجد قرب النوافذ، أو الخروج للأسطح، أو البلكونات، فرصاصة طائشة ربما تأخذ عمرك في لحظة.
طفلة حي الزهور
قبل أيام أصيبت إحدى الطالبات برصاصة أودت بحياتها بحي الزهور بالعريش أثناء مرور حملة أمنية، تصادفت مع عبور الطالبة للشارع، لكن "هدى" تقر بأن غالبية أفراد الجيش يتعاملون بشكل جيد مع الأهالي، حتى أن أحد المجندين سمح لسيدة ألا تظهر وجهها وقت التفتيش بأحد الكمائن واحترم رغبتها في ارتداء النقاب.
لكن "هدى" تشتكي من النظرة العامة التي يواجهها سكان العريش ورفح والشيخ زويد، من قبل بعض أفراد الأمن، فعدد منهم يتعنت معهم على اعتبار أنهم إرهابيين أو يخفون الإرهابيين ببيوتهم.
طمأنة مصطنعة
بعبارات مصطنعة تحاول نهى "اسم مستعار" معلمة الإنجليزية بأحد مدارس العريش طمأنة تلاميذها كلما اقتربت أصوات الرصاص وطلقات المدافع، إلا أن الثلاثاء والأربعاء الماضيين كانوا أكثر الأيام رعبا.
"نهى" تقول إن الوضع بالعريش حاليا مأساوي جدا، فبعض الفصول لا يوجد بها سوى4 تلاميذ فقط، وعندما يشتد الضرب يبدأون في الصراخ، ويصرحون برغبتهم في الذهاب لمنازلهم، ويضعون أيديهم على آذانهم خوفا من اقتراب صوت المدافع أو القنابل التي تلقيها الطائرات.
مدرسة "نهى" لا يوجد بها سور ومصعدها على الشارع مباشرة مما يعرض التلاميذ للرصاص العشوائي، الذي يطلق ما بين الحين والآخر، وفي غالبية الأوقات تعطي إدارة المدرسة إجازة للمعلمات.
لم ترسل "نهى" ابنتها للحضانة منذ أربعة أيام بسبب سوء الأوضاع الأمنية هناك ولن تعود هي الأخرى للعمل إلا بعد هدوء الأوضاع، لكنها تأمل في عودة السكينة للمدينة قريبا خصوصا وأنها لا تجد أي مفر للانتقال من هناك فليس لها أقارب خارج العريش، وحاليا بات السكان محرمون حتى من الذهاب الشاطئ، والتنزه بأي مكان.