رغم الهزيمة في الحرب.. هكذا انتصرنا في 5 يونيو على صفحات الجرائد
في مثل هذه الأيام منذ خمسين عاما كانت تدور حرب الأيام الستة، وحين ترجع إلى الصحف المصرية التي كانت تصدر آنذاك تجد أن الدول العربية كانت قاب قوسين أو أدنى من تحرير فلسطين وسحق إسرائيل، لولا أن الصحافة العالمية كانت تذيع من أنباء الحرب ما يؤكد أن العرب أمام "نكسة" وهزيمة قاسية لجيوشهم.
الحرب التي انتهت باحتلال سيناء وهضبة الجولان بسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة، بدأت صبيحة يوم 5 يونيو 1967، وبينما كانت الطائرات الإسرائيلية تحلق فوق سماء مصر تقصف مطاراتها وطائراتها حتى دمرتها كانت الصحف تتحدث عن زحف الجيوش العربية إلى تل أبيب بعد هزيمة ساحقة للعدو.
هناك في دار الكتب والوثائق المصرية بطريق كورنيش النيل توجد حجرة صغيرة تسمى بـ"قاعة الميكروفيلم"، فيها توجد نسخ أصلية من الصحف القومية لعقود طويلة مضت، منها الأهرام والجمهورية والأخبار والمساء، تجمع بين طياتها مزيجا من الواقع والوهم الذي كانت تصدره للرأي العام إبان النكسة .
وحين تقلب بين صفحات هذه الجرائد تجد أنه طوال شهر مايو السابق على "النكسة" كانت الصحف تصدر عناوين حماسية تبث التفاؤل في نفوس الأمة العربية بحرب وشيكة على الأبواب تجلب النصر وتحرر فلسطين، غير أن كل ذلك لم يكن إلا ضربا من ضروب الوهم أو الخيال.
في السابع والعشرين من مايو 1967 أبرزت جريدة الجمهورية عنوانا على صفحتها الأولى من خطاب عبد الناصر جاء فيه "قواتنا كافية لتحقيق النصر .. منذ سنتين قلت إنه لدينا خطة لتحرير فلسطين..واليوم نحن على ثقة أننا سننتصر ..إذا بدأت إسرائيل بأي عمل عدواني فسوف تكون المعركة ضدها شاملة وهدفها الأساسي هو تدمير إسرائيل".
ونشرت الجمهورية يوم 29 مايو 1967 عنوانا تصدر صفحتها الأولى يقول "عبد الناصر يضع صورة الحقيقة كاملة أمام العالم في موقف قد يعني السلم أو الحرب .. سنقاوم أي تدخل بكل قوتنا.. لا تسوية ولا تعايش مع إسرائيل..إذا أرادت إسرائيل الحرب فأهلا بالحرب ونحن ننتظر ما ستفعله إسرائيل".
وتوقعت الجمهورية اقتراب الحرب فمهدت لها على صفحتها الأولى بعناوين تؤكد الفوز المبين، منها "الحرب على الأبواب..الساعات القادمة مشحونة باحتمالات بدء المعركة على نطاق شامل..نحن على استعداد لخوض المعركة الفاصلة".
حتى جاء يوم 5 يونيو وفيه كان العنوان الرئيسي لصحفية الأخبار "إننا ننتظر المعركة على أحر من الجمر ليعرف العالم أن الجندي العربي هو المقاتل الشجاع الباسل...إسرائيل قد تبدأ العدوان بعد أيام..وستتصدى الأمة العربية كلها لأي عدوان".
وفي نفس اليوم اندلعت الحرب وانتصر العدو وانهزمت الجيوش العربية في معركة لم تحارب فيها، بعكس ما كانت تصور الصحف، ومع ذلك استمرت في تضليل الرأي العام باختلاق قصص عن بطولات وانتصارات وهمية.
شنت إسرائيل هجومها صبيحة يوم الاثنين 5 يونيو 1967 في تمام الساعة7.45 دقيقة، وفي غضون ساعات قليلة كانت جميع الطائرات المصرية محطمة على الأرض، وبلغت خسائر حرب الأيام الستة بحسب وثائق تاريخية ما يلي:
نوع الخسائر |
العرب |
إسرائيل |
القتلى |
من 15 - 25 ألف |
من 650 - 800 |
الجرحى |
من 40 - 45 ألف |
2000 - 2500 |
الأسرى |
من 4000 - 5000 |
15 - 20 |
العتاد الحربي |
من 70 - 80% |
من 2 - 5% |
"مصر وإسرائيل كل منهما على يقين من النصر، والتفاؤل هو المزاج السائد في البلدان العربية، مع غياب أي بيانات رسمية تتحدث عن الهزيمة"، هكذا ذكرت صحيفة "صن ديلي" عن الحرب.
عشية يوم 5 يونيو كانت جريدة المساء تنتفض بعناوين حماسية عن انتصارات الجيوش العربية منها "إسقاط 43 طائرة للعدو..الطائرات الإسرائيلية أغارت على القاهرة وأنحاء الجمهورية، طائراتنا وأسلحتنا المضادة للطائرات تتصدى لطائرات العدو..كلنا رجل واحد خلف القائد في المعركة”.
غداة اليوم الأول من النكسة بدا أن الصحف لم تعترف بالهزيمة فواصلت إيهام الرأي العام بانتصار القوات العربية، ومن ذلك ما نشرته جريدة الأخبار يوم 6 يونيو من عنوان تصدر صفحتها الأولى قالت فيه "قواتنا تتوغل داخل إسرائيل".
ولم تكن الجمهورية بعيدة عما نشرته الأخبار فقد قالت في عناوين صفحتها الأولى يوم 6 يونيو "سلاح الجو الإسرائيلي يلقى أكبر هزيمة فوق الأرض العربية..86 طائرة أسقطها سلاحنا الجوي..و50 أسقطتها سوريا و23 أسقطتها الأردت و7 العراق وواحدة لبنان".
وجاء في عناوين الجمهورية في اليوم الثاني للحرب "القوات السورية والأردنية والعراقية تضرب مواقع العدو وتتوغل داخل أراضيه على طول الجبهة..تدمير مطارات العدو وضرب مصفاة البترول في حيفا وإشعال النيران في مستعمرات إسرائيلية ..قواتنا تسلمت زمام المبادأة وتوغلت داخل إسرائيل بعد أن دمرت دباباته وأحبطت محاولاته للهبوط بالهليكوبتر".
وبينما كانت هذه عناوين الصحف آنذاك ذكر العميد يحيى أحمد حسين، أحد المشاركين في النكسة، في مقال له يروي ذكرياته مع حرب الأيام الستة، أن الحرب كانت متوقعة وبعكس ما كانت تمارسه الصحف العربية من تضليل تلقت الجيوش هزيمة ساحقة.
وجاء في المقال "ثلاث ساعات واصلت فيهم إسرائيل شن غارات جوية على المطارات الحربية المصرية وقواعد الدفاع الجوي في سيناء والدلتا والقاهرة ووادي النيل ووسط الصعيد على موجات استهدفت الأولى 11 مطارًا، والثانية استهدفت 14 مطارًا، ودمرت ما لا يقل عن 85% من طائرات مصر وهي جاثمة على الأرض، وشلت وسائل الدفاع الجوي وكذلك التجمعات الرئيسية للقوات المسلحة على أرض سيناء”.
وفي اليوم الثالث من الحرب عنونت المساء صفحتها الأولى "سنحقق أهدافنا، عبد الناصر يؤكد تصميم الجمهورية العربية المتحدة على تحقيق الأهداف العربية المشتركة".
وجاءت عناوين صحيفة الجمهورية يوم 7 يونيو "ضرب المواقع الإسرائيلية على طول الجبهة..طائراتنا تقصف مطارات العدو في الجنوب وتضرب تجماعاته..قصف مجلس الوزراء والبرلمان الإسرائيلي وقتل 500 في هجوم باسل للطائرات الأردنية والعراقية".
وبينما كانت المساء والجمهورية تتحدثان عن بطولات الانتصار على العدو ذهبت الأهرام إلى الحديث عن مؤامرة تحاك من أمريكا وبريطانيا ضد الجيوش العربية، حيث ذكرت على صفحاتها يوم 7 يونيو: "الطيران الأمريكي والبريطاني يعمل ضدنا في المعركة".
وأضافت الأهرام "قتال مرير على كل الجبهات العربية بينما العدو يقف في المعركة بقوة ضخمة من طائراته وطائرات المتواطئين معه..قواتنا تخوض الآن معارك ضارية وتقف ضد هجمات عنيفة يشنها العدو على مواقع العريش وأبو عجيلة والقسيمة..قواتنا تقف في بسالة أمام هجوم أمريكي بريطاني إسرائيلي".
وذكرت المساء في اليوم الرابع للحرب أخبار عن خسائر فادحة للعدو منها "إسقاط 9 طائرات للعدو في القاهرة والقناة..طائرتنا تدمر قوة مدرعة للعدو ..محاصرة قوة أخرى من المدرعات الإسرائيلية بين العريش وساحل البحر..القوات السورية تسقط 5 طائرات للعدو خلال نصف ساعة".
على نفس المنوال كانت عناوين جريدة الأهرام يوم 8 يونيو وجاء فيها "القتال مستمر بعنف على الجبهة المصرية..معارك متصلة بين قواتنا وبين قوات العدو طوال نهار وليل أمس..خسائر العدو في الطيران خلال الاشتباكات مع قواتنا الجوية تصل إلى ما يقارب مجموعة 300 طائرة".
وواصلت الأهرام في عددها الصادر خامس أيام الحرب الحديث عن المؤامرة وخسائر العدو ومن عناوينها "معارك رهيبة بالمدرعات في سيناء .. القوات المصرية شنت أمس هجوما مضادا وضربت عدة هجمات للعدو على الخط الثاني".
وتضمنت العناوين: "الأدلة على التواطؤ الأمريكي البريطاني في دعم إسرائيل بالجو تزداد وضوحا كل يوم .. إسقاط أكتر من 115 طائرة للعدو خلال هجماته الأولى وأسر وقتل عدد من طياريه .. تحطيم ثلاث هجمات إسرائيلية بالمدرعات في مناطق الكونتيلا وأبو عجيلة وخان يونس".
واستمرت الصحف في تصدير الأكاذيب عن الانتصارات على إسرائيل حتى جاء يوم 10 يونيو اليوم السادس من الحرب، والذي أعلن فيه عبد الناصر تنحيه عن رئاسة الجمهورية تحملا لمسؤولية الهزيمة، قبل تراجعه عن هذا القرار امتثالا للضغوط الشعبية التي تطالبه بالبقاء.
ولكن أبت جريدة المساء ألا تعترف بالهزيمة فحتى مساء يوم التنحي كان العنوان الرئيسي الذي تصدر صفحتها الأولى "الجيش العربي يزحف إلى تل أبيب .. القوات العربية دمرت منطقة النقب وتواصل زحفها...الجيش السوري يدمر مواقع العدوان داخل الأراضي المحتلفة تمهيدا للقوات الزاحفة.