
قيمة الديمقراطية في الإصلاحات السعودية

ثابت عيد
27 يونيو 2017
عندما تولّى الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم في يناير سنة ٢٠١٥م، استبشرتُ خيرًا، وتوقّعتُ تصحيحًا لسياسةِ سلفه الملك عبد اللّه الّذي أبدى عداء شديدًا للثّورات العربيّة. وعندما تمّ تنصيبُ ابنه الأمير محمّد بن سلمان وليًا لوليّ العهد، توقّعنا جميعًا حدوث طفرة في السّياسة السّعوديّة، خاصّة أنّ الأمير محمّد بن سلمان مازال شابًّا صغيرًا، اعتبرته غالبية جيل شباب السّعوديّة نموذجها الأعلى، وعلّقت عليه الكثير من آمال التّغيير والإصلاح.
شخصيًّا لا أميلُ إلى المشاركة في سبّ دولة عربيّة وتحقيرها في مقابل تمجيد دولة عربيّة أخرى ومدحها. والسّبب بسيط جدًّا هو إدراكي العميق أنّ ما فعله جيل صحابة رسول اللّه (صعلم) بالذّات يعتبر معجزة من معجزات الإنسانيّة على الإطلاق.
فقد تمكّن جيل الصّحابة من وضع أساس انتشار الإسلام واللّغة العربيّة في عدد كبير من دول العالم في وقت قياسيّ لم يتعدّ مئة السّنة. ولولا هذا الجيل الّذي كان عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد، منه، لما صرنا اليوم، أنا وأنت، نتحدّث اللّغة العربيّة، ونؤمن بدين الإسلام. فمصر قبل ظهور الإسلام كانت مستعمرة رومانيّة، وكان المصريّون يتحدّثون لغات مختلفة لم تكن العربيّة منها، بل إنّ الأسكندريّة كانت مازالت مركزًا مهمًّا من مراكز العلم والثّقافة في العالم. وبعد فتح مصر (٦٤١م) اعتنقَ غالبيّة المصريّين الإسلام، وأصبحت اللّغة العربيّة هي لغتهم الأم. ومع ذلك فقد ظلّ المؤرّخون يفرّقون بوضوح بين العرب الأقحاح الّذين جاؤوا من شبه الجزيرة العربيّة وبين هؤلاء الّذين صاروا عربًا من العجم.
والملفت للنّظر هنا أنّ اللّغة العربيّة صمدت في وجه جميع اللّغات الأخرى قرونًا طويلة، منذ فجر الإسلام حتّى يومنا هذا. فلم يتمكّن الفرنسيّون من محوها في شمال أفريقيا، ولا فلح الإنجليز في إقصائها عن المصريّين. بل إنّ الإمبراطوريّة العثمانيّة الكبرى الّتي حكمت عددًا كبيرًا من الدّول العربيّة لم تسعَ إِلى إحلال اللّغة التّركيّة محلّها.
اختلط العرب بالشّعوب الجديدة، وتزاوجوا منهم، وأصبح من الصّعب التّفريق بين جذور المصريّين وجذور السّوريّين أو اللّيبيّين مثلًا. فنحن قد نشير إلى أهل الشّام على أنّهم من بلاد لا علاقة لها بشبه الجزيرة العربيّة. لكن إذا تفحّصنا جذورهم بدقّة، فسنجد أنّ غالبيّتهم من أحفاد معاوية بن أبي سفيّان (المكّيّ) وجيله الّذي أسّس في دمشق الدّولة الأمويّة. والشّيء نفسه ينطبق على المصريّين الّذين توحي أسماء الكثيرين منهم (حجازي، مكّي، أنصاريّ) بجذورهم العربيّة الأصيلة.
والخلاصة هي أنّنا جميعًا أسرة واحدة، وعائلة واحدة، وأمّة واحدة، لم يفرّقنا شيء إلّا السّياسة والضّعف والاستسلام والاستعمار. وبعدُ.
يضمّ كتابُ (الإسلام في عيون السّويسريّين) ترجمة عربيّة لفصل كامل من كتاب مهمّ (بالألمانيّة) للباحثين السّويسريّين إريك جيسلينج وأرنولد هوتينجر. كلّما تأمّلت أوضاع دولنا العربيّة في العقود الأخيرة، تذكّرت قولًا حكيمًا لأرنولد هوتينجر ذكره في كتابه هذا، حيثُ قال: «لا صناعة بلا ديمقراطيّة، ولا ديمقراطيّة بلا صناعة».
يمكننا تفسير هذا القول بعبارة أخرى: الحرّيّة هي أساس تقدّم الأمم، والقمع هو نعشها. قد يقول قائل إنّ هتلر كان ديكتاتورًا، ومع ذلك أسّس صناعات متقدّمة، وظهر في عصره عملاقة من أمثال بورشية، ومرسيدس. لكنّ الإجابة على هذا القول بسيطة جدًّا وهي أنّ الدّيكتاتوريّات، مهما فعلت، فهي تحمل في بنيانها بذور انحلالها وانمحائها وهلاكها.
ذلك أنّ إلغاء عقول ملايين من البشر، والاعتماد على عقل واحد يريد من النّاس جميعًا أن يستمعوا إليه، وينساقوا وراءه، وينفذوا تعليماته، هو الجنون بعينه.
وإذا عدنا إلى مسألة الإصلاحات السّعوديّة، فمن المفيد أنّ نشير أنّ العبقريّة العربيّة هنا ينبغي أن تتمثّل في اللّحاق بالحضارات الّتي سبقتنا، والعمل على سدّ الفجوة الكبيرة الّتي صارت تفصل بين العرب والحضارة الحديثة.
وهذا يعني ببساطة أنّ نجاح أيّ خطط إصلاحيّة في أيّ دولة عربيّة سيعتمد في المقام الأوّل على مدى استعدادنا لمنافسة (الآخر) الّذي تفوّق علينا، وصار يتحكّم في مصائرنا، وأصبحنا تابعين له، وصار هو يتقدّم إلى الأمام، ونحن نتأخّر إلى الوراء، وأصبح هو يأمرنا من السّماء العُلى، وصرنا نحن نُطيع أوامره من أسفل سافلين.
العبقريّة الّتي ننتظرها من العرب هنا تتمثّل في الحرص على عدم الانتظار، حتّى يأتي (الآخر) ويقول لنا (لابدّ أن تقوموا بإصلاحات، ولابدّ أن تعطوا المرأة حقوقها، ولابد أن تمنحوا شعوبكم حرّيتها، ولابدّ أن تحترموا حقوق الإنسان، ولابدّ أن تعترفوا بالدّيمقراطيّة، والقيم الغربيّة). لا يجوز أن ننتظر طويلًا حتّى يأتينا الخواجات بهذه التّعليمات، بل ينبغي أن يكون لدينا ما يكفي من طموح، بحيث نصل إلى وصل إليه (الآخر) من مستويات متقدّمة في جميع ميادين الحياة، بل ونسبقه فيها، ونتجاوزه. هذه هي العبقريّة.
الحرّيّة الّتي قال عنها المنفلوطيّ المصريّ إنّها شمس لابدّ أن تشرق في كلّ نفس، فمن عاش محرومًا منها، عاش في ظلمة حالكة - هي بالفعل كذلك.
والسّعوديّة لديها جميع مقوّمات التّقدّم واللّحاق بحضارة العصر. لكن إذا غاب عنصر الحرّيّة، فستتضاءل فرص نجاح هذه الإصلاحات. والأمر بسيط جدًّا ولا يحتاج إلى خوف أو تشنّج.
فشعوبنا العربيّة شبعت قمعًا، وتضليلًا، وإملاقًا، وتجويعًا، وإرهابًا. والنّتيجة الملموسة أمامنا جميعًا هي أنّ هذا القمع إدّى في المقام الأوّل إلى زيادة تأخّرنا عن الحضارة الحديثة، وضاعف من تخلّفنا عن موكب الحضارة الإنسانيّة.
والاعتراف بالحرّيّة، والدّيمقراطيّة، والعدالة الاجتماعيّة، والكرامة الإنسانيّة، كقيم إنسانيّة رفيعة، سوف ينقلنا، شعوبًا وحكّامًا، من مرتبة الأمم المتخلّفة إلى طبقة الدّول المتحضّرة.
والحكّام الّذين يعارضون هذه المبادئ، أو يخافون منها، أويحاربونها، ينبغي أن نوضّح لهم أنّه (لن يصحّ إلّا الصّحيح، مهما حدث)، ولذلك فمن الأفضل الإقرار بهذه المبادئ الإنسانيّة (الإسلاميّة) اليوم قبل غدٍ.
وينبغي إقناع خصوم (الثّورات العربيّة) بأنّ هذه الثّورات هي ثورات من أجل قيم (التّقدّم)، وليس يجوز أن يخافوا منها. ولعلّ الدّليل على ذلك نظام الحكم في (دولة الكويت) حيث ينعم النّاس بهامش معقول من الحرّيّة، ويحظى الأمير بتأييد غالبيّة شعبه. فأين إذًا الخطر المزعوم من الحرّيّة؟ ولماذا أصلًا الخوف من الدّيمقراطيّة.
إنّ أي نظام حكم يقوم على الأمر والطّاعة العمياء، مصيره الفشل.
والشّرعيّة الحقيقيّة ينبغي أن يستمدّها الحاكم من الشّعب، وليس من أي جهة أخرى، مهما كانت