
ثورة يوليو.. حديث كل عام

خالد داود
02 أغسطس 2017توفي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قبل سبعة وأربعين عاما. وعلى الرغم من ذلك لم يتوقف الجدل الدائر في مصر حول تقييم إنجازاته والطريق الذي قرر السير فيه وعواقبه. وهذا العام، امتلأت الصحف ومحطات التلفزيون بمراجعة ما حققته ثورة 23 يوليو، خاصة أنه وقد مر عليها خمسة وستون عاما بالتمام والكمال، وهو رقم يغري في عالم الصحافة والإعلام بإفراد مساحات كبيرة لهذه القضية التي لا يبدو أننا سننتهي منها أبدا.
ولكن الجدل ازدادت سخونته هذا العام في ضوء قرار السيسي استبدال اسم مدينة مبارك العسكرية في مدينة الحمام بالقرب من الحدود الليبية بـ "قاعدة محمد نجيب" والتي تم وصفها بأنها الأكبر على الإطلاق في إفريقيا والشرق الأوسط. واختيار اسم محمد نجيب تحديدا كان مدخلا مناسبا جدا لتجديد الهجوم الشرس على ناصر من قبل منتقديه وأعداءه، وذلك في ضوء الخلاف الحاد الذي نشأ بين الرجلين في العام 1954، أي قبل 63 عاما، وانتهى بعزل المشير نجيب وفرض الإقامة الجبرية عليه، وبروز ناصر بصفته القائد الحقيقي والأوحد لانقلاب 23 يوليو العسكري، والذي تحول تدريجيا إلى ثورة بكافة المعايير الأكاديمية، وتحديدا من ناحية تغيير التركيبة الطبقية للمجتمع، وازاحة كافة رموز المؤسسة الحاكمة القديمة من أسرة ملكية ألبانية الأصل وإقطاعيين كانوا المستفيدين الرئيسيين من نظام ما قبل 23 يوليو.
وكل عام، تتكرر نفس الحجج في الجدل الدائر بين أنصار عبد الناصر ومؤيديه، ومن يحملون كراهية شديدة له بزعم أنه المسؤول عن تدمير مصر ودفعها في اتجاه الدولة السلطوية العسكرية التي تتحكم بها الأجهزة الأمنية.
ولا يهتم أعداء ناصر وثورة 23 يوليو بحقيقة أن ناصر كان أول حاكم مصري للبلاد منذ آلاف السنين، وينكرون دوره في إنهاء الاحتلال الإنجليزي لمصر الذي دام ثمانين عاما تقريبا. ويقول هؤلاء: وما أهمية أن يكون ناصر مصري إذا كان مشروع بناء الدولة المدنية الحديثة على النمط الأوربي قد أطلقه محمد علي المملوك الألباني، بل ويتساءلون عن جدوى الخلاص من الاحتلال الانجليزي لمصر إذا كان البديل لذلك هو ما وصفته صديقة بـ "الاحتلال المحلي" لمصر وذلك على أساس أن انقلاب 23 يوليو استبدل حكام الأسرة الألبانية بضباط للجيش استولوا على ثروات مصر وصادروا قصور الأسرة المالكة والإقطاعيين ووهبوها لأنفسهم.
طبعا لا يوجد في كتب العلوم السياسية شيء اسمه "احتلال محلي". وبينما يمكن توجيه كافة أنواع الانتقادات للضباط الشباب الطموحين الذين تولوا حكم مصر في ذلك الوقت، فإنه من المؤكد أن انتماءهم لهذا الوطن ولطبقة الكادحين تحديدا كان علامة بارزة ميزات ما بعد 23 يوليو 1952 عما قبلها. كما أن إنهاء الاحتلال الانجليزي وتأميم قناة السويس المصرية وقيادة تيار حركات التحرر في العديد من الدول الإفريقية والآسيوية، بل وأمريكا اللاتينية مثّل إنجازا كبيرا لا يمكن تقييمه بمعايير العام 2017، ولا بد من قراءته في سياقه التاريخي وما كان قائما في تلك الفترة من حرب باردة بين أمريكا الرأسمالية والاتحاد السوفيتي السابق الشيوعي.
ولكن ما لا يمكن قبوله هو حالة الاستعلاء الطبقي المنفر التي يتحدث بها أعداء عبد الناصر عن أصوله الطبقية ومن استفادوا من الإصلاحات العديدة التي قام بها، خاصة في قضيتي الإصلاح الزراعي والتصنيع. ملايين المصريين استفادوا من تلك الإصلاحات، وتم خلق طبقة متوسطة جديدة تختلف تماما عن تلك التي كانت قائمة قبل الثورة. وكافة مراجع العلوم السياسية تؤكد على أهمية توسيع نطاق الطبقة المتوسطة تحديدا إذا كان لأي مجتمع أن يحقق نهضة حقيقية، بدلا من تركيز الثروة في يد طائفة صغيرة من الإقطاعيين مقابل غالبية كاسحة من الفلاحين الفقراء الذين كانوا حتى العام 1952 يتم تنظيم حملات رسمية لإقناعهم بارتداء الأحذية ومحاربة "الحفاء"، ويحصد الطاعون أرواح عشرات الألوف منهم.
أعداء ناصر الطبقيين، وتحديدا ممن تعرضت ممتلكاتهم للمصادرة في إطار عملية الإصلاح الزراعي والقضاء على الإقطاع، لا يستحون أن يقولون أن ناصر "أتى بأبناء البوابين والفلاحين لحكم مصر"، خاصة وأن ناصر نفسه كان والده مجرد ساعي للبريد، وموظف بسيط. المذهل أن غالبية من تعرضوا لمصادرة أراضيهم قد انتقلوا لرحاب الله بكل تأكيد، ولم يبق سوى أبناؤهم وأحفادهم والذين يتضاءل عددهم مقارنة بالزيادة السكانية التي شهدتها مصر على مدى العقود الماضية.
ولقد بدأت المقال بالتذكير أن ناصر لقي ربه منذ نصف قرن تقريبا لأن ذلك فقط يؤكد أنه من المستحيل أن يتحمل الرجل بمفرده مسؤولية كل ما قام به من خلفوه، كالسادات والمخلوع مبارك. وإذا كان ناصر قد أنشأ بالفعل أجهزة الأمن والمخابرات التي تتحكم في طريقة إدارة مصر قبل أكثر من ستة عقود، فإن أحدا لم يمنع السادات أو مبارك من بناء الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، خاصة أن السادات قد تخلص من كل سياسات عبد الناصر وتوجهاته الاشتراكية وتحالفه مع الاتحاد السوفيتي السابق، وأطلق شعار أن أمريكا هي الكل في الكل، وهي نفس السياسة التي تمسك بها مبارك طوال سنوات حكمه الثلاثين.
ما أتمناه أن يفكر الجميع في المستقبل، وأن نتوقف عن النبش في الماضي الذي لن يفيد في شيء. لدينا ما يكفي من المصائب والمشاكل في العام 2017، وحلها بالتأكيد لن يبدأ بحسم الجدل حول إذا ما كانت 23 يوليو أو انقلاب، أو إذا ما كان ناصر قد أخطأ أم أصاب بتأميم القناة ومصادرة أراضي الإقطاعيين. ما نتمناه هو الخلاص من دولة القمع والصوت الواحد، وهو الأمر الوحيد الذي يصمم كل من حكموا مصر على التمسك به، وبغض النظر عن كل ما مررنا به من تجارب وتغيرات.