جوليو ريجيني.. حينما يكون الضحية "أجنبيًا"
صفوان محمد
12 أبريل 2016"إن ما تعرض له ابني في مصر لم يتعرض له أي إيطالي منذ الحقبة النازية الفاشية في أوروبا، شرور العالم كله وجدت على وجهه في صورة ما بعد قتله، كان باحثًا يحب عمله، لم يكن حتى صحافيًا أو جاسوسًا، أو أي شيء آخر، والشيء الوحيد الذي وجدته في صورة جوليو هو طرف أنفه، لأنهم نصحونا في مصر بعدم رؤية الجثة، ربما لنا نحن الإيطاليين قتل ريجيني حالة فردية، ولكن للمصريين ليس كذلك، وسأستمر في مطالبتي بمعرفة الحقيقة كاملة عن قتل جوليو".
هذا مقتطف من خطاب والدة الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، أمام البرلمان الإيطالي.
"إن جوليو توفى تحت التعذيب مثلما كان سيحدث لأي مصري" قرأت هذه الجملة مرارًا وتكرارًا، للدرجة التي كرست بداخلي الحزن والألم المُطلق، لم تعد هناك عبارات تُسعفني، جملة يتخللها كل معاني البؤس والأسى من بين كل خطابها، وابراز الويل والعذاب والألم الذي كابده واكتوى بناره كثير من أمهات المختفين قسريًا، والمقتولين تحت وطأة التعذيب، ولم تسنح لهن الظروف أن يخرجن إلى وسائل الإعلام، ليسمع صرخاتهن وأنينهن، ويتضامن معهن كل من لديه الحد الأدنى لمعني الإنسانية.
ربما كانت والدة ريجيني على علم وهي تُلقي بكلماتها أن هناك آلاف من الأمهات المصريين يشعرن بالألم والحسرة هن الأخريات، على أبناءهم المفقودين قسريًا، والمقتولين داخل أقسام الشرطة، ليلاقوا جميعًا نفس مصير ابنها، لكن لم تكن تعلم أنها أكثر حظًا منهن؛ لأنها لم تُجبر على الصمت خوفًا على بقية أبناءها مثلما يحدث مع الأمهات المصريات..
كانت أكثر حظًا رغم مصابها بأن وطأت قدميها ساحة البرلمان الإيطالي لتبعث من داخله برسالة هزت كيان المجتمع الإيطالي والدولي، كانت أكثر حظًا رغم حزنها لأنها وجدت إعلامًا صادقًا في بلدها يُنصفها ويثير قضيتها في كافة المحافل، كانت أكثر حظًا رغم دموعها لأنها وجدت الجميع حولها، ولم يصل لمسامعها كلمات مثل " إيه اللي وداه هناك"
ربما لم تسمع والدة ريجيني بأن هناك مواطن مصري إختفي قسريًا في نفس الوقت تقريبًا الذي اختفي فيه جوليو، إسمه أحمد جلال، البالغ من العمر 32 عامًا، لم يكمل عامه الأول من الزواج، تم خطفه بعدما اقتحمت قوات الأمن الوطني شقته، بمدينة الرحاب، بمحافظة القاهرة يوم 20 يناير 2016، واستولت على بعض محتويات الشقة بعد اتلافها، -حسب رواية زوجته- سارعت أسرته بتقديم بلاغ اختفاء قسري وأرسلت تلغرافًا بذلك، ليعقبه تقديم العديد من البلاغات دون جدوي.
ظل أحمد مختفي قسريًا لمدة تقارب الـ12 يوم، حتى تلقت أسرته مكالمة تليفونية يوم الأحد 31 يناير 2016 من مشرحة زينهم، "تعالوا استلموا جثة إبنكم من المشرحة، بعد قتله بطلقة نارية في الرأس"، نعم بهذه البساطة والأريحية والطمأنينة، طلبوا من والدته وزوجته التي لم تُكمل عاملها الأول، ومن جنينها الذي لم يُكمل الشهرين داخل رحمها ليصبح يتيم الأب، أن يحضروا ليستلموا جثة، وحتى هذه اللحظة لم يعرف أحد تفاصيل مقتله، ولم يتم محاسبة قاتليه، لتحيا زوجته ووالدته من بعد مقتله في سِني من الشقاء والحسرة والحزن والألم، هذه الأم تجاهلتها وسائل الإعلام، لم يلتفت اليها أحدًا على الإطلاق، وكان أقصى ما في استطاعتها أن ترفع أكفها للسماء وتبتهل إلى الله بأن تُصبح دماء أحمد لعنة تطارد كل من تسبب أو شارك في قتله.
هؤلاء لا يوجد غضاضة لديهم بأن يُظهروا قتلاهم ماسوشيين، كأنهم هم من قتلوا أنفسهم؛ يتلذذوا بتعذيب أنفسهم بأياديهم، ولديهم كتائب من الإعلام تُروج أكاذيبهم، وكأن من يُتابعهم غُرًا ساذجًا يصدق كل ما يُقال له. وستطوي صفحات هؤلاء الضحايا كما طُويت صفحات من رحلوا قبلهم، ولن يشعر بهم أحدًا سوى أصوات قليلة لا تملك من الأمر شيئًا إلا أن تكتب قصصهم عبر مواقع التواصل الإجتماعي "الفيس بوك" وهو المنفذ الوحيد المتبقي لهم للتنفيث عن جم غضبهم من دولة الفاشية والاستبداد.
القدر وحده هو من أرسل قضية المسكين جوليو لتُعيد من جديد قضايا التعذيب والقتل والاختفاء القسري، وجعلها في صدارة المشهد السياسي المصري، وللأسف الشديد لا شيء سوى أن القتيل إيطالي الجنسية، لديه أسرة تضغط على حكومتها وتُجبرها للسعي لمعرفة حقيقة مقتل ابنها، وإعلام ومنظمات حقوقية، ورأى عام يقف خلفها..
لن تقبل التصريحات المتضاربة والمتخبطة من مسؤولي وزارة الداخلية، مثلما حدث في بداية الأمر عندما صرح مدير الإدارة العامة لمباحث الجيزة وقال " إنه لا توجد شبهة جنائية في وفاة الشاب الإيطالي، وأن التحريات الأولية اشارت إلى تعرضه لحادث سير، ونفي اصابته بأي طلقات نارية أو طعنات" ولن يُجدي نفعًا معها إعلانهم مقتل 5 أشخاص في التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة، بدعوى تورطهم بسرقة وقتل الشاب الإيطالي.
قضية جوليو ريجيني ليست أكثر أهمية من كل قضايا القتل التى حدثت للمصريين بأيادي مصريين، سنقف وراء جميع القضايا الإنسانية بغض النظر عن جنسية صاحبها، وسنطالب بمعرفة الحقائق كاملة ومحاسبة المسؤولين، والقصاص من قتلى شهداء ثورة يناير حتى هذه اللحظة، وليس انتهاءً بالخمسة أشخاص الذين تم تصفيتهم بدعوى تورطهم بسرقة وقتل ريجيني، سنظل نفضح سوءات كل فاسد أو قاتل إلى أن يأتي اليوم الذي تطمئن فيه قلوب الأمهات اللاتي اكتوين بنار فراق أبنائهن.