"مذبحة رابعة".. عندما يفقد الإنسان آدميته
صفوان محمد
14 أغسطس 2016في 13 أكتوبر من عام 1972 تحطمت طائرة في جبال الأنديز، كانت تقل مجموعة من الطلبة في فرقة اتحاد الرجبي الرياضية، قُتل على إثرها 29 راكبًا، وجميع أعضاء الطاقم، ونجي 16، علم الناجون أن عمليات البحث قد توقفت بعد أيام من التحطم وأنهم أصبحوا منعزلين بدون أكل على ارتفاع 3600 متر، وظلوا شهرين واثنى عشر يومًا في ظروف جوية صعبة حتم تم إنقاذهم.
فبعدما نفذ كل ما لدى الناجين من طعام وهم محاصرون في تلك الجبال الجليدية والعواصف الثلجية، نصحهم أحد زملائهم، وهو طالب طب، أن يتناولوا البروتين لكي يتمكنوا من مقاومة البرد ومن البقاء على قيد الحياة. وليس هناك أي مصدر لهذا البروتين إلا جثث زملائهم وأهلهم الذين قُتلوا في الحادث، كما أن عليهم الإسراع بنبش الجثث لأن تراكم الثلوج وضعفهم المتزايد سيزيدان في صعوبة الوصول إلى هذه الجثث.
وبعد 72 يومًا ينجح اثنان منهم في جلب نجدة في طائرة هيلوكوبتر. يقول الطيار وهو يروي القصة، إنه حين أطل على مكان وجود الأحياء الناجين رأى أمامه عظامًا آدمية متناثرة على مدى النظر. "وكأن قطيعًا من الوحوش المفترسة قد داهم تجمعًا بشريًا". وحين استغرب الطيار استغربوا من استغرابه لأنه لم يتعود، بينما هم تعودوا على الأمر وتآلفوا معه. "حيونة الإنسان".
حين يتعود الإنسان علي أمور غير مقبولة، ويفقد فيها فطرته الإنسانية التي فطره الله عليها؛ وحين نفقد كرامتنا وإحساسنا بآدميتنا، ونقبل الإذلال، ونستسيغ العنف والتعامل الحيواني الذي نُعامل أو يُعامل به غيرنا على مرأى منا في الحياة أو حين نقرأ عنه أو نراه علي شاشات التليفزيون؛ نتحول حينها إلى حيوانات، وإن كانت الحيوانات تمتاز عنا بأنها لا تقتل من أجل المتعة وتحقيق الذات.
إيريك فروم يقول إن الإنسان يختلف عن الحيوان في حقيقة كونه قاتلًا، لأنه الحيوان الوحيد الذي يقتل أفرادًا من بني جنسه ويعذبهم، دونما سبب بيولوجي أو اقتصادي، ويحس بالرضى التام من فعل ذلك..
في التعذيب عبر العصور ترد هذه الفقرة الهامة في التمييز بين الإنسان والحيوان: "فالوحوش لا تقتل المخلوقات الأخرى من أجل الابتهاج والرضى فقط، والوحوش لا تبني معسكرات اعتقال أو غرف غاز، ولا تعذب الوحوش أبناء جنسها إلى أن تهلكهم ألمًا، ولا تستنبط الوحوش متعة جنسية منحرفة من معاناة أقرانها وآلامهم".
قد يحدث للذئاب أن تقتتل فيما بينها، ولكن رادعًا غريزيًا يحول من دون اقتتالها حتى الموت، فالحيوان المقهور الذي يسلم عنقه لأنياب خصمه لا يجهز عليه خصمه.
حين علمت ببدء فض اعتصام رابعة، انتابتني حالة من الخوف والقلق الشديدين لم أشهد لهما مثيل من قبل، ليس فقط الخوف من تبعات فض الاعتصام، والذي كنت أرى حينها أنه سيجر البلاد في دوامة الدم والعنف، هذه الدائرة الملعونة والمفرغة التي لا تنتهي إلا لتبدأ ولا تبدأ إلا لتسترسل؛ ولكن أيضًا من رد فعل الناس من الطريقة الوحشية للفض، في ظل إعلام يمارس بطريقة ممنهجة تهيئة العقل الجمعي لهم بضرورة سحق المعتصمين وقتلهم دون رحمة.
وحين تم الفض ورفض البعض قتل الإنسان لأخيه الإنسان ما لم يتورط في القتل، انطلقت كتائب إعلام جوبلز تمارس الإرهاب الروحي الدنيء علي كل من يخالفهم الرأي، فبإشارة واحدة أو بمعنى أدق بتعليمات عليا أطلقت أساطيل من الأكاذيب والتهم والافتراءات على أي خصم ذي خطورة عليهم، -من وجهة نظرهم- لأنه يكشفهم ويفضحهم، حتى تتحطم أعصاب الأشخاص الذين استهدفتهم تلك الحملات الشرسة، وترك لجانهم الإليكترونية تنهال بالتخوين والتشكيك في وطنيتهم، واتهامهم أنهم من كتائب الإخوان، وهم نفس الأشخاص الذين كانوا يحتفوا بهم ويمجدونهم؛ لأنهم كانوا من المعارضين للإخوان وقت أن كانوا في سُدة الحكم، لعبوا على مواطن الضعف البشري لهؤلاء الأشخاص. وهو ما أدي إلى خوف البعض، الذين كانوا واقعين بين مطرقة الإعلام وسندان القلة التي كانت ترفض فض الاعتصام، ونجحوا ولكن بشكل وقتي.
هذا الإرهاب النفسي الواقع على الفرد، كان من الأهمية في جعل النظام يعتقد أنهم حققوا النصر الناجز أمام أشياعهم ومن يغيبوا عقولهم من الجماهير نصرًا لعدالة قضيتهم، وفي المقابل تجد القلة التي كانت تعارضهم قد غلبهم اليأس حينها من النجاح واقتنعوا بعبث أي مقاومة.
وبعد مرور كل هذا الوقت على فض اعتصام رابعة، وأنا أرى أن الأشياء تُسمى بمسمياتها، والجميع يجهر بما كان يهمس به من قبل، أن ما حدث في رابعة مذبحة.