الاتصال الفعال وتعظيم المنفعة

الاتصال الفعال وتعظيم المنفعة

مدحت نافع

مدحت نافع

19 يناير 2018

 

بعيداً عن العبارات التقليدية التى امتلأت بها كتب الإدارة والتى صارت من المحفوظات المهملة، فموضوع المقال سوف يتطرق إلى أزمة واقعية تعيشها الكثير من المؤسسات والشركات فى مصر. وسائل الاتصال الحديثة لم تتعثر فقط فى الدخول إلى الجهاز الإدارى للدولة وبعض الجهات المملوكة لها، ولكن بدائل الاتصال الفعّال حتى ما هو قديم منها وغير متطور يجد صعوبة فى اختراق حاجز العمل الفردى المنعزل الذى أصبح آفة تضر بالاقتصاد القومى وتعوق أية محاولة للإصلاح الإدارى.

 

كالعادة سوف أكرر دون ملل حقيقة أن الإصلاح لا يكون بالتشريع فحسب بل هو إرادة حقيقية تدعمها إجراءات تشتبك مع الواقع اليومى بتفاصيله على الأرض. من ذلك ما يتعلق بتفعيل القانون رقم 5 لسنة 2015 المرتبط بتفضيل المنتج المحلى فى العقود الحكومية، والذى يتعثّر دائماً لغياب قنوات الاتصال الفعّال بين أطراف العملية الإنتاجية فى مصر. ومزاحمة المنتج المصرى لإنتاج شركات شقيقة –أحياناً- لمجرد أن وسائل التنسيق البدائية بين الأطراف غير متوافرة لأسباب غير مفهومة! ربما يكمن الحل فى اتصال هاتفى يعقبه اجتماع بين طرفى التعاقد، أو هو سعى مشترك لتكوين تحالف للدخول فى إحدى المناقصات عوضاً عن التنافس بغرض إزاحة كل طرف لمنافسيه.

 

المنفعة المتبادلة التى يحققها الاتصال الفعّال لها وفورات اقتصادية واجتماعية كبيرة. فهى تساهم فى تخفيض التكاليف، وزيادة الانتاجية، وزيادة إيرادات النشاط، وتشغيل العمالة، والتصدير...إلى غير ذلك من مكاسب تختلف باختلاف النشاط والظروف المحيطة بالصفقات موضوع الاتصال. ربما يتصور البعض أن تلك الأمور البديهية لا ينبغى أن تخصص لها مقالات الرأى، ولا أن ينشغل بها المختصون فضلاً عن عامة الشعب، لكن الحقيقة أننا فقدنا الكثير من المنطق والتصرف الرشيد بعد أن اعتبرناه من المسلّمات وهو فى الواقع لا يعدو أن يكون موروث قديم، أو معيار سلوكى لا يتخطى دفتى كتاب الإدارة العامة قيد أنملة!

 

فى بلادنا أصبحنا فى أمس الحاجة إلى إعادة تقدير المسلمات وبثّها فى المعاملات عبر مختلف القنوات، حتى يتأتى تحصيل النفع العام والخاص منها على السواء. كأنى ببعض الحكماء الذين بح صوتهم وهم ينادون بعودة مادة الأخلاق ليتم تدريسها فى المدارس الابتدائية. ولأننا اعتبرنا أن الأخلاق من المسلمات المحفوظة وأنها مصدر للملل لدى قراءة قواعدها وآدابها فقد أهملناها عملاً وفعلاً. كذلك فيما يخص بمهارات الاتصال الأساسية، التى توقف البيت عن تلقينها للنشء، وعمدت بعض المؤسسات التعليمية على تعزيز إهمالها بعدما استخدمت التكنولوجيا الحديثة بصورة تضر بسلامة التواصل بين أفراد المجتمع الواحد. التكنولوجيا التى تفتح باباً للتواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعى على سبيل المثال، تغلق أبواباً عدة أمام التواصل إذا كانت النتيجة هى انكفاء مستخدميها على ذواتهم، والاكتفاء بمتابعة الشاشات الرقمية بصورة تساعد على ضمور مهارات الاتصال البشرى بعدم الاستخدام عبر الزمن.

 

أرجو ألا يفهم من كلماتى أننى أنتقد التكنولوجيا الحديثة وأطالب بمنعها أو تحجيمها كما يفعل البعض ممن استحبوا المنع على إدارة المخاطر، وآثروا الجهل على التعلم واكتساب الخبرات الجديدة. التكنولوجيا شأنها شأن كل ما خلق الله للناس، منها ما ينفع ومنها ما يضر. فمن أراد أن ينتفع بها أمكنه ذلك ومن أراد أن يصيب بها أذى نفسه وغيره فلا يخصم ذلك من رصيدها بقدر ما يعكس طبيعة النفس البشرية التى ألهمها خالقها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها.

 

لكن الملاحظ أن كثيراً من ضعف التواصل بين مؤسساتنا ينشأ بين أناس بلغوا من العمر والخبرات المتراكمة ما لا يمكن معه اتهام المخترعات الحديثة فى تعميق ذلك الفشل فى التواصل مع الآخرين. السبب ربما يعود إلى انتشار قيم الأنامالية وعدم الاكتراث للآخرين، والسعى إلى تحقيق المصلحة الخاصة دون محاولة لحقيق أية منفعة مشتركة يمكن أن تعم على جميع الأطراف. هى ثقافة الفردية فى أبشع صورها، انتقلت إلينا من ثقافات مختلفة، بين أسوأ ما يتم استيراده من منتجات الخارج المختلف معك. لكن العلم والتقدم والسعى والمنافسة الجادة النزيهة...يكسد سوق استيرادها فى مصر، فقط لأنها غير مربحة فى الأجل القصير. تلك آفة أخرى أصابتنا ويمكن تفسيرها فى ضوء شيوع قيم الفردية التى سبق بيانها. فمن علامات الفردية البغيضة أن ترى الدنيا كلها محدودة بعمرك وعملك ومغانمك، فإن مت فقد انتهى العالم ولا شأن لك بما يحدث فيه! هذه قيمة تضع معتنقها فى مرتبة أدنى من البهائم التى فطرها الله على حفظ النسل وعمارة الأرض مع السعى على الرزق.

 

الاتصال الفعّال يغلق الكثير من أبواب الفساد المستشرى فى الجهاز الإدارى للدولة، ويسمح للجهات الرقابية بإعمال شئونها فى اكتشاف كل أسباب الخلل قبل تعاظمها ومأسستها.