
زمن "إلون ماسك"

مدحت نافع
15 فبراير 2018
لم يكن إطلاق صاروخ ثقيل إلى الفضاء بواسطة شركة space X لصاحبها الملياردير المخترع إلون ماسك حدثاً عابراً أو إنجازاً كبيراً لإحدى الشركات. بل هو علامة فارقة فى تاريخ البشرية، ترسم مع بعض العلامات الأخرى حداً فاصلاً بين عهود لهيمنة الدولة بمؤسساتها التقليدية وعهود جديدة يحل فيها القطاع الخاص محل تلك المؤسسات فى مجالات لم يكن يتصور أحد أن يقدم عليها هذا القطاع، ولا أن تسمح الدولة بها خارج نطاق سيطرتها المباشرة.
العلامات الأخرى لذلك الحد الفاصل ربما نراها فى دخول القطاع الخاص وبقوة فى مجالات تمويل وإدارة مشروعات البنية الأساسية بالمشاركة مع الدولة. نراها أيضاً فى صعود الاقتصاد التشاركى ليحل عبر شركاته وأدواته الافتراضية محل الدولة فى مجالات مختلفة مثل النقل والمواصلات والامن والمراقبة...وربما نراها فى عملات افتراضية قضّت مضاجع البنوك المركزية عبر العالم بصعود قيمتها وأحجام تداولها فى الأسواق، ولم تهدأ وتيرة الهجوم عليها إلا بنبرة التشفّى فى انهيار أسعارها فى أسواق صرف العملات، علماً بأن هذا الانهيار قد واكب انهيارات كبيرة فى أسواق المال التقليدية أيضاً! وعلى ذكر أسواق المال لا ننسى أن دخول سلاسل الكتل block chains - التى أنعشت العملات الافتراضية - فى مجال المنافسة لبورصات الأوراق المالية التى تملكها الدولة أو تراعاها أو فى القليل تهيمن عليها عبر هيئاتها الرقابية، أضر كثيراً بربحية البورصات وكان سبباً فى موجة الاندماجات بين كبرى البورصات حول العالم منذ عام 2007 وهو العام الذى بدأت فيه البورصات التشاركية فى تحقيق نجاحات سريعة.
الدولة إذن تتراجع أدوارها أمام القطاع الخاص، والقطاع الخاص التقليدي يتراجع أمام قوة الأفراد والتكنولوجيا الحديثة، وكل ذلك فى مجالات اعتبرها منظّرو اقتصاد السوق فى أزمنة غابرة بأنها غير مشجّعة للمال الخاص على أية حال، ولا يضطلع بها سوى الدولة نظير ما تحصل عليه من ضرائب وما تتحمله من مسئوليات الدفاع والأمن وخدمة المجتمع. خدمة المجتمع هى الاخرى صارت رقماً صحيحاً ضخماً فى مصروفات الشركات، صارت ذراعاً هامة للدولة فى كثير من المجتمعات، لخدمة الفئات المهمّشة واستهداف التنمية المستدامة قدر المستطاع. الدولة النمطية تواجه تهديداً كبيراً لا يصح أن تتصدى له بقرارات المنع والتجريم وفتاوى التحريم وتجنّب المخاطر. الدولة التى تتمثّل أبرز مظاهر سيادتها فى بسط الأمن وإنفاذ القانون وفى مقابل هذا تحصل على الضرائب وتخضع للرقابة الشعبية، ظهر لها الكثير من البدائل الأقل تكلفة والأكثر مرونة وكفاءة! الصاروخ الذى أطلقه صاحب شركة تسلا للسيارات الكهربائية، فضلاً عن ضخامته وثقل حمولته، فقد طوّر تكنولوجيا دفع جديدة من شأنها أن توفّر المليارات على وكالة ناسا كانت تهدر هباءً. استطاع "ماسك" أن يعيد صاروخى دفع من أصل ثلاثة صواريخ سالمين إلى الأرض ليعاد استخدامهما، وكان من المقرر عودة صاروخ الدفع المركزى (الثالث) سالماً لولا أنه فقد فى المحيط، ولم يكن ليستخدم مجدداً على أية حال وفقاً لتصريحات الرجل الحديدي الحقيقي "إلون ماسك".
كل تلك العلامات تأتى بالتزامن وبالمصادفة أو ربما عن قصد مع عهد يتصدر فيه قمة عالم الدول التقليدية رجل مثل "ترامب" أتت به صناديق الاقتراع بنزاهة، ولكنه لا يوزن أبداً فى ميزان واحد مع شخص مثل "ماسك" ولا يمكنه أن يسوّق للدولة الأكبر فى العالم بنصف قدرات ذلك الرجل الحالم الذى أطلق سيارته فى الفضاء متجهة إلى المريخ فحقق بذلك مبيعات لسيارته وحجوزات مستقبلية غير مسبوقة فى مجال صناعة السيارات.
كل ذلك يأتى فى وقت انشغلت فيه الدول بتكديس ترسانات الأسلحة، ومكافحة بؤر الإرهاب بعد المشاركة فى خلقها بادئ الرأى (كما تفعل الولايات المتحدة بصورة منهجية)، وتضييع تريليونات الدولارات عبثاً دون تحقيق أهداف التنمية والقضاء على الفقر التى يمكن أن تتحول إلى واقع ملموس بخمسة فى المائة من ميزانية الإنفاق على التسليح. لكن يذكر أن أهم تلك الدول وأكبرها قد تركت نافذة كبيرة لمواطنيها بل وللمهاجرين إليها (مثل "ماسك" الجنوب أفريقى المولد الكندى الأصل) كى يبدعوا وينطلقوا ويحلوا محل مؤسساتها العتيقة، التى مآلها إلى الزوال أو التطوير الحتمى المحفّز بمنافسة قاسية مع الشركات والأفراد الطموحين والحالمين.