المتمترسون خلف قانون الغاب

المتمترسون خلف قانون الغاب

مها عمر

مها عمر

30 يناير 2018

 

تحكي لي جدتي أنه في أحد المشاجرات في الأحياء الشعبية، تلك التي كانت تشتعل لأن فتى "عاكس" فتاة، رأت جدتي خالي في واحدة منها، ولأنها كانت امرأة استثنائية، ظلت تراقبه من بعيد، لم يحاول أن يتدخل من أجل منع المتحرشين من محاصرتها، بل تردد حتى اجتمع شباب آخرون للدفاع عنها، يقول خالي أنه في لحظة كان سيترك الفتاة ويمضي حتى وجد ستي خلفه وبمجرد أن رفع عينيه إليها حتى لطمته على وجهه وقالت له: "ارجع إليها.. ماذا لو كانت أختك؟".

 

صحيح أن خالي اشتبك مع المتحرشين وما نابه سوى تقطيع قميصه كما يقول المثل الشعبي، لكنه ظل يحكي لنا تلك الحكاية دون لطمة جدتي، حتى عندما فارقت الحكاية بدأ يحكي لنا الحكاية كاملة.

 

كنت أريد أن أكتب اليوم مقالي عما يحدث بين أوساط فئات معينة تبنت خطاب الحريات وحقوق الإنسان، هي ذاتها التي تبنت خطابا تحريضيا ساخرا ضد الاسلاميين في وقت من الأوقات.

 

الحقيقة أن الفريقين يشكلان في داخلهما كل الأمراض الاجتماعية التي يمكن أن يعيشها أي وقت لا يتم فيه تطبيق القانون، ويتم فيه الادعاء بضرورة تطبيقه.

 

والحقيقة الساخرة أنه إذا كانت 99% من نساء القاهرة قد تعرضن للتحرش كما تقول دراسة نشرتها رويترز، فهذا قد يعني بالتبعية أن 99% من المتحرشين رجال يعيشون داخل مجتمعنا المتدين بطبعه.

 

ما علمته لي تجارب من حولي وبعض ما عشته في المجتمع كامرأة عاملة، أن التحصيل العلمي والأكاديمي لا علاقة له بالسلوك الأخلاقي للمتحرش، ولا حتى بعدد الفروض التي يؤديها يوميا، وبالتالي لا علاقة له بما يأكل منه "عيش" بطبيعة الحال وأعني مجال عمله، فإذا كان محاميا في مجال الحريات أو متحدثا عن حقوق الإنسان أو أي وظيفة لها علاقة بهذه الدائرة فهي لا تمثل أخلاقياته، وكان الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله قد ذكر من قبل أن فكرة أن الإنسان = وظيفته هي فكرة ابتدعتها الرأسمالية التي حصرت الإنسان وشيّئته وجعلت وظيفته نموذجا تفسيريا للظاهرة الإنسانية.

 

وتنسحب هذه الفكرة أيضا أو لنقل هذا النموذج التفسيري على مجتمعات الإسلاميين أيضا التي تمارس من خلال فهم بدوي، متزمت، ضيق للفكرة، الوصاية على النساء، وتعيش النموذج البطريريكي بكل مساوئه من سلطوية عائلية فاشية، وتمترس خلف عادات بالية تم سحبها على ما هو ديني لاحتكار السيطرة لا أكثر.

 

ولا عجب أن ممارسات الفريقين جعلتنا نسمع نماذج لأكاديميين ونجوم في مجتمعاتهم، متهمون بالتحرش، أو بازدواجية المعايير، فهم فيض من غيض هذا المجتمع، الذي سنجد فيه أيضا المتعاطفين مع المتحرش، والمتعاطفين مع المغتصب، والذين يتهمون الذين من تم التحرش بهن بأن شيئا ما "تم بالتراضي"، أو عن سبب "السكوت" كل هذا الوقت، أو عن غموض بعض تفاصيل الحكاية التي ترويها، ادعاء وجود الغموض هنا نوع من التشكيك في صحة الرواية.

 

حين كنت أحضر بعض الورش الإرشادية عن النسوية، بمعناها الواسع المتجاوز للتفسير المتمحور حول الذات لمرأة، كنت أفهم أن النسوية غرضها الانتصار للجنسين، والانتصار للإنسانية، باعتبار المرأة شريك أصيل في الوجود. وأفهم أن فعل الوجود غرضه التعايش، وحين تناسى الإنسان ذلك وقرر تسيير طبيعة الغاب، قرر أخوه الإنسان الآخر أن يجعل السيادة للقانون، وحين تدخلت المصالح الضيقة في تكييف القانون، بات القانون ينتصر للأقوى، وهنا تحولت الإنسانية إلى غابة كبرى، لا مكان فيها لضعيف.