
هل تستطيع أم سيد أن تتكلم ؟

منى النمورى
16 مايو 2014
فى الأول من يناير 2013 كتبت مقالاً بعنوان (الإسم: شعب ..المهنة: مجاميع) ، نٌشر فى موقع البلد اليوم، شبهت فيه جموع الشعوب من الإناس العاديين--ملح الأرض كما يسمونهم-- بمجاميع الأفلام، الكومبارس، وكان هذا ملخص ماكتبت تقريبا:
}فى معظم الأفلام يستعين المخرج بالعديد من الكومبارس كخلفية لمشاهد الشوارع، الحروب، القهوة، ويسمونهم مجاميع، غالباً يطلبون منهم التقدم من ناحية لأخرى، عبور الشارع ، التصرف بطبيعية وكأنهم فى قهوة وهكذا، لايمكن ان تميز منهم احداً لأن دورهم هو هذا على وجه التحديد، أن يخدموا كأعداد وليس كأفراد وأن ينفذوا إرادة المخرج بالضبط بلا زيادة او نقصان. وبالطبع تزيد خطورة المجاميع عند زيادة عددها فمثلاً اتخيل ان الأعداد الكبيرة التى يستعين بها المخرج فى فيلم تاريخى مزعجة لأنه لابد من السيطرة عليها فلا تقوم بأكثر مماهو مطلوب منها ولا يختل التوازن مطلقاً ولهذا كنا نرى فى كواليس الأفلام المخرج او مساعده يسيطرون على الجماهير بمكبر صوت عالى لإعطائهم اوامر التحرك.
كانت هذه مجرد صورة تلح على ذهنى من فترة وأحاول ان أفهمها عن طريق توسيع أبعادها فيكون بدلاً من الأستوديو لدينا البلد بحالها وبدلآً من المخرج لدينا مجموعة حاكمة نعرف بعضها وبعضها لانعرفه و المجاميع هى الشعب كله، لكنه مقسم لمجموعات ولكلِ دوره المرسوم، فالبعض يمتاز ببعض المهارات فيمكنه أن يقول بضعة كلمات هنا وهناك، والبعض يجيد حركات الأكشن فتٌسند له الخناقات والبعض لاحول له ولا قوة يروح يميناً أو شمالاً والقلة تحلم دائماً بدور البطل وهذه إما يتم تصعيدها أو طردها من الفيلم لخطورتها.
دور المجاميع على مر القرون كان تنفيذ الدور المرسوم أوالإرتجال والخروج عنه ثم العودة السريعة ربما لنفس الفيلم او فيلم أسوا. هذا هو الحال فى تاريخنا الحديث على الأقل منذ ثورة المصريين بزعامة الأزهر فى 1805والتى إنتهت بتعيين حاكم اجنبى وهو محمد على ، وثورة عرابى 1882 والتى إنتهت بالقمع والإحتلال الأجنبى ( أجنبى برضه!) .دور المجاميع يسير كثيراً حسب الدور المطلوب فى العامين الماضيين اللهم إلا من بعض الكومبارس المتهور الذى يظل يرفض السيناريو المرسوم ويتم نفيه خارج البلاتوه سواء بالطرد، التشويه او القتل.
المشكلة الحقيقية ان المجاميع لاتحصل على أى شئ مقابل التمثيل..لاشئ..تتغير الأفلام والمخرجين والسيناريوهات ويزيد الجهد او ينقص ولا يحصل الكومبارس إلا على وجبة ، قد تكون بلحم او دون لحم حسب نوع المجموعة..فقط!
فى تاريخ السينما الحديث لم يتغير الدور البائس للمجاميع كثيراً..شئ محبط..فقط تملؤنى طوال اليوم فكرة..سؤال..أليس من الجائز أن ترسم المجاميع دوراً جديداً..تكتبه بدقة و تنفذه بدقة وتغير نهاية الفيلم بالكامل؟{
هكذا إنتهى مقالى وقتها بهذا التساؤل الذى كان فى عز حكم الإخوان وحدث بعدها ماحدث من إنتفاضة يونيو الشعبية التى شاركتٌ فيها طوال أربعة أيام، وما أعقبها من تفويض للجيش وأيقنت وقتها أن المجاميع قد تحركت وربما من تلقاء ذاتها لكن كعادتنا فى الثلاث سنوات الماضية حدث فض الإعتصامين الذى لم يكن منه مفروحدث بالشكل الأسوأ، الذى نعرف أيضاً انه نتيجة حتمية لتراكم ممارسات بعينها، وبدأت دائرة العنف التى ندور فيها مثل الثور فى ساقية لا تهدأ وتحت وطأة الدم والخوف والقلق تجدد السؤال بداخلى، هل رسمت المجاميع المشهد أم رٌسم لها لتتحرك بحرية بداخله؟ هل كان للمجاميع أية خيار فى تحركاتها فى أى من الإنتفاضتين؟ وإن كان لها حرية التحرك بالفعل لماذا تأتينا النتائج دائماً محيرة وضد مصلحة المجاميع ؟ تبخر السؤال الأول عن إمكانية حركة المجاميع تحت حرارة عنف الشهور الماضية وحلت محله صورة لكماشة قوية تطاردنى طوال الوقت.
ومع مرور الوقت وتجدد الشعارات الطنانة حولنا مرة أخرى لم يعد السؤال يجدد نفسه، فقد بات واضحاً أن المجاميع تتحرك ثم تقفد الإتجاه، تتوه تحت تأثير النخبة وضغط الحياة والضغوط العالمية، حل محله سؤال آخر: هل تستطيع المجاميع أن تتكلم حقاً؟ أعنى هل لها صوت بالفعل؟ هل تستطيع أن تضع أفكارها فى كلمات وهل تستطيع ان توصل أفكارها للآخرين؟ هل تستطيع أن تصيغ أفكارها بوضوح؟ هل تعبر الخادمة والمربية والطباخة والسائق والموظف البسيط و"الأرزقى على باب الله يجلس على الرصيف بإنتظار شغلانة" --وهم مصريون على الرأس-- عن أنفسهم؟ من يعبر عنهم؟ وهل التعبير الخارجى الذى يٌفرض عليهم صحيحاً؟ يتم تصويرهم فى كثير من البرامج الحوارية ويصبحون مادة لأفلام محترمة أو غير محترمة، يباعون ويٌشترون هنا وهناك لكن هل يتكلمون حقاً؟
ضعونى أقرب الأمر لكم، هل أعرف أنا شيئاً عن حياة أم سيد، السيدة الفاضلة التى تساعدنى فى أعمال البيت؟ هل أعرف إنتظارها الأبدى للميكروباص؟ هل أعرف خضارها المهرمن وماءها الملوث؟ ربما اعرف هؤلاء لأنى أشاركها إياهم. لكن هل أعرف خلو عقلها من شكل الكلمات لأنها أمية لاتعرف القراءة والكتابة؟ وهل أميتها تساهم فى تشوش افكارها وعدم قدرتها على إتخاذ القرار الصائب؟ أعلمٌ ماذا تعنى شكل الكلمات فى اللغات التى لا أعرفها مثل الصينية واليابانية والتركية والعبرية والفارسية...الخ، فهل تبدو كتبى بلغتين التى تٌلمعها أم سيد وتعيدها على مكتبى مثل كتب اللغة الصينية لى؟ رموزاً منقوشة لا أفهمها؟ لا أعرف.فرضاً لو تمتعت أم سيد بحس لغوى شفوى عالى ستظل طاقتها مهدرة بين الفقر والجرى على الطرقات من اجل لقمة العيش.
وإن إمتلكت أم سيد اللغة والوقت والطاقة لكنها ظلت أم سيد، هل لديها السلطة والقوة اللازمتين للتعبير؟ هل لديها مساحة مثل التى أكتب فيها أو دقائق على قناة تليفزيونية أوإذاعية أوحتى صفحة على موقع تواصل إجتماعى فى فضاء الشبكات لتقول ما تريد؟ وهل اعبر أنا عن أم سيد لو كتبت عنها أم أعيرها صوت ليس صوتها وأرسمها كما تبدو لى فى تجربتى؟
ربما لن تتكلم أم سيد لأنها لاتملك مفاتيح اللغة لصياغة الأفكار أولأنها لاتملك السلطة اللازمة للكلام ولهذا قد تظل غير مسموعة وغير مرئية، فرد فى مجاميع، منهكة بين أمانها الشخصى على طريق بلا رادع وبين ضرورة توفير لقمة العيش لأيتامها وبين وطأة من يكلمونها عن الحرية والديموقراطية والآخرين الذين يكلمونها عن أمن وأمان واستقلالية الوطن.
ربما علينا أن نخفض سقف الأمانى والأحلام ونتخلى بعض الوقت عن مفاهيم مثل الديموقراطية والحرية لأنه حتى نفهمها ونمارسها لابد لنا من شعب واعٍ لاتقف الكلمات أمامه مثل نقوش هيروغليفية مبهمة. هذا ما رأيناه فى الثلاث سنوات الماضية، تتحرك الجموع وتتفاعل ثم يتوه منها الطريق بسبب الجهل، جهل متراكم طابق على الأنفاس، جهل تاريخى بمجريات الأحداث ربما علينا أن نوقف تلك الدوامة ونحدد نقطة إرتكاز واحدة تجعل التعليم والتنوير هدف أساسى لجعل كل أم سيد وكل أبو سيد وكل فرد فى المجاميع يفهم، يتكلم ،يٌرى و يٌعتبر.