أصوات نساء بلادى (1)

أصوات نساء بلادى (1)

منى النمورى

منى النمورى

13 يونيو 2014

مقالى هذا الأسبوع هو الأول فى سلسلة لا أعلم كم سيكون عددها، كل ما أتمناه منها هو ان أكون فيها جهاز تسجيل ذكى ينقل لكم أصوات نساء بلادى اللاتى أعرفهن ويمثلن شرائح مختلفة من قطاعات عِدة. بدأت المقال على خلفية واقعة التحرش الجديدة فى التحرير وإن كنت أراه يتعدى هذا الأمر ليتناول وضع المرأة بشكل عام.

صوتى..منى النمورى

"التحرش..كمان مرة التحرش..إيه؟ أيوان وكمان مرة التحرش وعشان الأستاذ اللى ورا بقى التحرش"

هكذا كانت تحدثنى نفسى صبيحة اليوم الذى تلى واقعة التحرش فى التحريروانا أصحو من النوم..حاولت ان أسكتها، شددت الغطاء على رأسى وحاولت الغرق فى أفكار مختلفة ، ركبت قارب تيار الوعى وتركته يبحر بى فى نهر نفسى العميق، فقط  لأجدنى قد إنتهيت فى شارع من شوارع مدينة طنطا الهادئة، بعد المغرب بحوالى الساعة، منذ خمس وعشرين عاما. أتذكراننى كنت غاضبة من الحياة كلها، غارقة فى أفكارى تماماً، وأننى كنت متعجلة للعودة مع بدء حلول المساء ولهذا و لطبيعتى العملية كنت أمشى مشية العسكرى  الرياضية، لا اهتم بمن اتجاوزه فى طريقى ولا بمن يعبر الطريق معاكساً وفجاة! يمسكنى أحدهم ويجرى! لحظة واحدة شعرت فيها بجسمى مثل شعلة من النار وبسرعة البرق تركز كل ما يغضبنى فى الحياة فى نقطة واحدة فى دماغ هذا الولد الذى إبتعد قليلاً الى الجانب ربما ليفكر كيف يعاود الكَرة ثانيةً. وفى فيمتو ثانية (قبل أن يكشف لنا زويل الفيمتو ثانية) كنت قد إنحنيت على الأرض وإلتقطت نصف قالب طوب احمرلا اعلم كيف رأيته فى الضوء الخافت وأرميه بكل قوتى فى إتجاه الولد وهو يجرى مثل الفأر!

" يا إبن الكلب!" وجدتها بقوة على لسانى وهى ليست أصيلة فى نسقى اللغوى. كان صوت الحجر والولد وهو يجرى وصوتى بأعلى قوتى وانا أشتم فى الشارع الهادى بعد المغرب، كل هؤلاء كان ولابد أن يلفتوا أنظارالناس بل ويٌخرجوا البعض من شرفاتهم فالشارع هادئ وضيق لكن لم يحدث أى من هذا  وبعد أن مشيت بضعة خطوات رأيت رجلاً يجلس على الرصيف أمام دكانه ويشرب الشاى!

كان هذا منذ خمس وعشرين عاماً!

وحين ركبت الميكروباص فى طريقى للمنزل تذكرت واقعة أخرى سبقت هذه بسبع سنوات وتذكرت رد فعل أسرتى التى لامتنى لأننى لم احسن التصرف حين لزمت الصمت بينما لم أكن مؤهلة لحظتها لأى تصرف..شعرت يومها أننى قد أخذت بتارى الشخصى وأطلقت زفيراً طويلاً وإن ظلت صورة الرجل الجالس على الرصيف يشرب الشاى فى الشارع الهادئ فى طنطا بينما فتاة يتم التحرش بها على بعد خطوات تصدم عينى من وقت لآخر، تجرحنى أكثر من صورة الولد الذى تحرش بى بالفعل!

هل رأى الرجل شريب الشاى الأمر أتفه من أن يترك مشروبه؟ هل رأى اننى قد أخذت حقى بيدى فلا داعى لقلة الراحة؟ هل رأى أن الولد من حقه "مسكة هنا..تقفيشة هناك" من وقت لآخر؟ هل رأى اننى اجرمت اننى لا زلت فى الشارع بعد المغرب وأستحق ما يجرى لى؟ هل رأى ان التحرش بالنساء جزء من الحياة مثل المرض والموت وعلى الجميع التعايش معه؟ هل إستفزته مشيتى العملية الواثقة فوجد ان من الواجب تأديبى لأتذكر دائماً اننى ضعيفة؟

ظلت علامات الإستفهام هذه فى ذهنى خمس وعشرين عاما إستطعت خلالها لميزة المكانة الإجتماعية ويٌسر الحال أن اتجنب المواصلات العامة إلا فيما ندر وأن أعيش فى منطقة لا علاقة لها بالشارع وما يجرى فيه وإن ظلت المسألة برمتها فى أحد دواليب ذاكرتى مثل جثة مخبأة لاداعى لإخراجها ولا الكلام عنها.

ثم كتبت منذ سبع سنوات عن الموضوع فى إحدى الصحف، وقامت الدنيا ولم تقعد على مستوى الأسرة..كيف أكتب وأنا السيدة الفلانية زوجة السيد الفلانى أخت فلان الفلانى عن أننى تم التحرش بى! كان منطقهم مفهوماً فهو منطق الطبقة المتوسطة المحافظة وكان ألمهم جارحاً لأنه نقلنى مباشرة أمام الرجل الذى جلس يشرب الشاى أمام دكانه متظاهراً أنه لم يحدث شئ يوجب الكلام عنه فى شارع طنطا الهادئ منذ خمس وعشرين عاماً.

كل نساء مصر تم التحرش بهن بطريقة أو أخرى فى حيواتهن المختلفة بالكلمة أو الحركة أو الموقف او حتى بالنظرة. المسألة كانت أضخم حتى من أراها بشكل سليم.

وعدت الى الصمت! كنت كلما وٌلِدَت فى محيطى أنثى إنوجع قلبى بوجع عميق وغامض وكنت أضج بإبنتى التى تكبر أمام عينى فأعيش عذاباتها مرة أخرى معها فى كل إتجاه وكأنه صليب جديد أحمله على ظهرى!

بإختصار:المرأة المٌتَحَرَش بيها ( المهانة، المغتصبة، المهضوم حقها...الخ) فى مجتمعنا هى نتاج قلة نخوة وقلة إنسانية وقلة ادب وقلة أخلاق وقلة دين ووفرة سادية ووفرة دونية للمرأة ووفرة إستهتار بها..ولا علاقة لهذا  بالسيسى أو مرسى فمنذ خمس وعشرين عاماً كان مبارك فى قمة عزه ولم تكن هناك فضائيات ولا سموات مفتوحة ولا كبت جنسى ولا ملابس مثيرة مثل التى فى حياتنا الآن ويتحجج بها الناس. التحرش هو شكل من أشكال ممارسة القوة على المرأة فى الشارع وإسقاط الفشل أو الإحباط  أوالملل عليها ، التحرش أيضاً قد يكون وسيلة لممارسة القوة دون اى مسئولية أو تعب، لحظة يقتنص فيها المتحرش ما ليس له بالقوة او تحت التهديد معتمداً على صمت ضحيته وخجلها.

لن تتقدم مصر إلا حين تًصان نسائها ويٌحترمن لأنه حين يحدث هذا سيكون المجتمع نفسه قد تمت صيانته وإحترامه. لن تتقدم مصر إلا حين يقوم الرجل شريب الشاى من مقعده الخالد فى خيالى ليمسك بالمتحرش ويقتص منه بعد أن أكون قد ضربته بنصف قالب طوب أحمر!

كان هذا صوتى..ألقاكم فى الأسبوع القادم مع أصوات أخرى من نساء بلادى.

monaelnamoury@hotmail.com