مصر التي في المسلسل (١)

مصر التي في المسلسل (١)

براء أشرف

براء أشرف

21 يونيو 2015

سيكتب التاريخ يومًا، في كتبه، حكاية مصر مع التلفزيون!


الشعب المصري، شعب تليفزيوني بامتياز، يحب الشاشة، ويحترمها، ويقدس دورها في حياته. شعب تحكمه الشاشة!

لعلك تلاحظ، أن هناك أشخاص ما في حياتنا المصرية، كل أهميتهم أنهم يجيدون الظهور باستمرار للكلام في برامج التلفزيون..

وفي رمضان، تختفي البرامج الحوارية، لتحل بديلاً عنها حكايات درامية متنوعة، فيما يعرف باسم "مسلسلات رمضان".. ولسبب ما، مجهول تمامًا، تحول الشهر الكريم إلى موسم لعرض المسلسلات، بكثافة وضخامة وتنوع.. وهو أمر، لم نستقر حول كونه سلبيًا أم إيجابيًا..

ما علينا، بدعوة كريمة من "مصر العربية"، أكتب على حلقات عدة مقالات حول مصر ومسلسلاتها هذا العام.

 

(١)

الوقت لايزال مبكرًا للحكم. الحلقات الأولى غير كافية لمعرفة كيف سيكون الموسم الدرامي.. لكن هذا لا يمنع لو نتأمل الصورة العامة سريعًا.. ونضع عدة ملاحظات..

 

الدراما، هي حكاية ما فيها صراع ما.. تتطور، ولها بداية ووسط ونهاية.. عقدة وحل.. ودائمًا، ضربة البداية فيها لخيال المؤلف.

 

لنتأمل مسألة الخيال هذه قليلًا.. لعلك تلاحظ، أن الدراما المصرية - غالبًا ودائمًا - خيال مؤلفيها يتعلق بالماضي، القريب أو البعيد، أو حتى البعيد جدًا.

 

هذه ملاحظة عامة، يمكن حتى أن تنطبق على الأفلام السينمائية أيضًا.. الخيال المتعلق بالمستقبل معدوم.. ربما هناك حالات استثنائية جدًا، وفي حدود كوميدية فانتازية لا أكثر.

 

لدرجة أن صفحات الحوادث بالصحف اليومية، بل والصفحات الأولى أيضًا (على اعتبار أن الحوادث أصبحت تكتب فيها حاليًا) أصبحت هي المصدر الرئيسي لموضوعات المسلسلات.. التي تنطلق عادة من حكايات واقعية جدًا.. مر بها الجمهور.. وكأن الجمهور يريد أن يبقى مكانه، أسيرًا لنفس الدراما والصراع، دون أمل في أنه سينتهي يومًا ما لصالح صراع جديد ومختلف في المستقبل.

 

شيء ما، يفضح خيالانا، حين تكون السرديات التي نفضلها (مؤلفين ومشاهدين) تنتمي للماضي وحده. هذا يكشف، أيضًا أن سؤال المستقبل غير مطروح أصلًا في واقعنا بحيث نرى له انعكاس على الشاشة والحكايات المعروضة عليها.

 

دائماً الشاشة تشبه جمهورها. تأمل المعروض، وستجد لديك قدرة على فهم طبيعة المشاهدين.

 

المشاهد المصري، مهموم وقلق جدًا تجاه ماضيه، وكأنه مجهول بالنسبة له، ويرغب في أن يحكيه له أحدهم.. بصورة جذابة وبطريقة مسلية. وهذا أمر غير جيد على أي حال.

 

باب الماضي، يجب أن يغلق في وقت ما. أو يوارب قليلًا.. أو حتى أن نفتح (بالتوازي) باب المستقبل قليلًا لنراه بخيال كتاب الدراما.. لعلنا، نرى فيه (المستقبل) ما هو أكثر جاذبية وتسلية!

 

(٢)

الأنماط لا تتغير.

 

هذه ملاحظة ثانية. ولعلك لست في حاجة إلى أن أخبرك بها. نفس الأبطال، بنفس المؤلفين والمخرجين، يعيدون إنتاج نفس الحكايات، بإعادة ترتيب وتغليف وتظبيط.. لا أكثر!.

 

لدينا مثلًا نمط محدد، ظهر منذ عدة سنوات، ولا أعتقد أنه سيختفي قريبًا، وهو المسلسل اللغز. جريمة قتل في الحلقة الأولى، ثم ٢٨ حلقة من الشك واللف والدوارن. ثم حلقة أخيرة تكشف من القاتل.

 

كانت هذه الحبكة مسلية في السنوات الأولى لاستخدامها. وبعضها كان حديث الجمهور كله، لعلك تذكر مثلًا، أن مسلسل اسمه "أوان الورد"، من تأليف "وحيد حامد"، كانت قصته تدور حول طفل مخطوف. وصل الأمر إلى أن قنوات التلفزيون والصحف، وضعت رقمًا خاصًا على الشاشة في إعلان، عبارة عن مسابقة لتخمين اسم خاطف الطفل، مقابل مكافأة مالية ضخمة.

 

لاحقًا، وجد البعض في المسألة مكسب مضمون، فتحولت نسبة غير قليلة من الدراما الرمضانية إلى ألغاز، كنوع من أنواع الضمانة، أن المشاهد سيبقى أسيرًا لللغز حتى نهايته.

 

لا أخفي إعجابي الشخصي بواحد من أفضل هذه الألغاز، مسلسل استمتعت به كثيرًا، وشاهدته عدة مرات، اسمه "أهل كايرو".. لمؤلفه المبدع الكبير، والصديق العزيز "بلال فضل".

 

لغز قتل "صافي سليم" في "أهل كايرو"، كان مصنوعًا بحرفية سيناريست، الألغاز ليست هدفه الأساسي. فجاء "أهل كايرو" عبارة عن تشريح فريد من نوعه للمجتمع المصري، واللغز على هامشه. حتى ظهر وكأن قتل "صافي سليم" ليس مهمًا، أو على الأقل ليس جوهر الحكاية!

 

يمكن للتأكيد على ما سبق، أن نخمن السبب في اختفاء مسلسل رمضاني للكاتب نفسه، وللعام الثاني على التوالي، اسمه "أهل اسكندرية".. والذي تحولت حكايته مع جهة الإنتاج (مدينة الإنتاج الإعلامي) إلى لغز آخر.. لا أحد من المشاهدين (ولا حتى من صناعه) يعلم كيف ينتهي ويخرج هذه المسلسل إلى النور.

 

بالطبع أنا لا أهاجم مسلسلسلات الألغاز. شخصيًا أشاهدها وتعجبني، ولعلها فرصة لتحية وشكر المبدع المتمكن "عمرو سمير عاطف" على إنتاجه من هذه النوعية في السنوات السابقة، والذي يعرض له هذا العام "لعبة إبليس" و"بعد البداية" (وبكار أيضًا).

 

فقط، ما ألاحظه، أن فكرة الأنماط المتكررة مسيطرة على الدراما المصرية، والألغاز واحدة منها. قبل سنوات، وحين كان نجوم التمثيل ينتمون إلى جيل أكبر في السن، كانت هناك أنماط أخرى.. شخص واحد فوق الخمسين من العمر، والحكاية كلها تدور حوله، وحول اختلافه عن المجتمع الذي يحيط به، ويبدو شخصية ذات رسالة وهدف وحلم في الحياة، وحتى العناوين كانت ذات نمط واحد متكرر "إمرأة من زمن الحب"، "رجل في زمن العولمة"، "نصف ربيع الآخر"، وهكذا..

 

حتى أن أحدهم، كتب معلقًا قبل سنوات يقول: "مش عارف ليه الأزهر ما زال مصرًا على منع تمثيل شخصيات الرسل والصحابة في الدراما.. مع إن يسرا ونور الشريف ويحيى الفخراني طالعين بشخصيات أنبياء ورسل عمرهم ما غلطوا وبيواجهوا مشاكل مع مجتمعاتهم اللي عايزين يغيروها زي ما بيحصل عادة في قصص الأنبياء"!!

 

وقبلها كانت هناك موضة أخرى، دراما المكان، حيث تدور الأحداث كلها في حي أو مقهى أو شارع أو منطقة.. خد عندك: "شارع المواردي"، "ليالي الحلمية"، "زيزنيا"، وهكذا إلى ما لا نهاية..

 

وبمناسبة الأنماط، لدينا مؤلف تحول إلى نمط في حد ذاته.. اسمه "مدحت العدل"، يعرض له هذا الموسم "حارة اليهود"، وعرض له العام الماضي" الداعية".

 

شخصيًا، أصبحت قادرًا على تخمين موضوعات مسلسلات "مدحت العدل" في المستقبل.. دائمًا نحن أمام قصة صعود شخص ما من الفقر إلي الثراء، أو حكاية شخص متطرف والمجتمع يعالجه من تطرف (سبحان الله)، أو بكاء على الزمن الجميل، واللعب على أوتار حكايات متكررة، عن الفراق والغربة وحب الوطن.. ودائمًا، يجب أن يكون هناك شيء ما مثير للجدل.. باختصار، نحن أمام نمط اسمه المسلسل المقال، وهو عبارة عن مقال أصلًا، أصبح طويلًا، بحيث قرر مؤلفه تحويله إلى مسلسل!.

 

وبالتأكيد، سنعود إليه لاحقًا، وإلى حارة اليهود بعد أن نفهم أكثر ما الذي يحاول أن يفعله العدل هذه المرة!.

 

نلتقي بعد الفاصل..