تحت سيطرة تامر ومريم

الحلقة الرابعة من سلسلة "مصر التي في المسلسل"..

تحت سيطرة تامر ومريم

براء أشرف

براء أشرف

02 يوليو 2015

مبدئياً، أنا منحاز لتجربة المخرج "تامر محسن".. الذي يعرض له هذا العام مسلسل "تحت السيطرة".. منحاز لتجربته قبل أن أنحاز للمسلسل ذاته.

(1)
تامر فنان متعدد المواهب، وقد عرفته شخصياً في مرحلة كان يخرج فيها الأفلام الوثائقية. ولطبيعة عملي وقتها في صناعة الوثائقيات، كان تامر يبدو، بأعماله وأفلامه وأفكاره وأسلوبه في الصورة والدراما، فنان فريد من نوعه، له لغته البصرية غير المعتادة، كما أن له أفكاره الخاصة جداً، وفلسفته التي تجعله ينظر إلى الصورة من زاوية غير تقليدية.

 

كنت، وزملائي في صناعة الأفلام الوثائقية، نراهن قبل عشرة سنوات، على مستقبل تامر محسن الدرامي والسينمائي. ولهذا، فإنني أشجع تجربته، كما أشجع عموماً تجارب الفنانين القادرين على الانتقال بسهولة من معسكر الوثائقيات، إلى معسكر الدراما والسينما..

 

قبل عامين، قدم تامر محسن مسلسله الدرامي الأول "بدون ذكر أسماء".. القصة والسيناريو للكاتب الكبير وحيد حامد، والصورة والإخراج والتكنيك لتامر محسن في مقطوعة درامية هادئة، ناعمة، سهلة، شديدة التعقيد والتركيب والذكاء..

 

ثم، في الموسم السينمائي السابق، قدم تامر أول أفلامه السينمائية، "قط وفار" عن سيناريو لوحيد حامد أيضاً. وهو فيلم تنطبق عليه الأوصاف السابقة. وهو أمر لو تعلمون غريب وغير مألوف..

 

قبل عدة أسابيع، كنت أشاهد بالصدفة أجزاء من أفلام تامر محسن الوثائقية، وقد لاحظت، أن الأسلوب ذاته، ربما لا يختلف، بل يتطور وينضج ويتسع، ليتضح، أن كل شيء على الشاشة، يمكن أن يبقى تحت سيطرة تامر محسن وإن اختلفت الأشكال الفنية، وثائقي ودراما وسينما..

 

فهو، مخرج لا يحب على ما يبدو الحكايات الضخمة العظيمة، لا يفضل أن يحكي قصة أجيال عديدة، تدور عبر عشرات السنين.. يفضل لو تبقى حكايته سهلة، صغيرة، واضحة ومحددة، لا مجال فيها للتشتيت أو التعقيد.

 

شاهد مثلاً فيلم وثائقي مبهر اسمه "اغتيال حسن البنا"، عرض قبل أكثر من عشر سنوات ضمن سلسلة "الجريمة السياسية"، وستبهرك هذه البداية دون شك، صوت المعلق يهمس بوقوع الجريمة.. يلتقط التفاصيل الصغيرة، ثم يمضي طوال الفيلم يربط التفاصيل ببعضها حتى يكون صورة عامة قوية وجريئة..

 

هذا الهدوء، والابتعاد عن الإنفعال إجمالاً، هو مفتاح فهم أعمال تامر محسن، خاصة، عندما يصاحبه في رحلته كاتبة مثل مريم ناعوم.

 

(2)

عرفت "تحت السيطرة" يوم 6 رمضان. كنت وسط بعض الأصدقاء وأطفالهم، نجلس في لحظات ما قبل المغرب، نقلب بين قنوات التلفزيون، حتى صاحت صغيرة ذات ثمانية سنوات، "بس بس، سيب تحت السيطرة"..

 

قالت الأم، أن صغيرتها تفضل هذا المسلسل.. رغم أنه كئيب وغير مناسب لسنها.. وتأملت من ناحيتي الصغيرة تجلس في غاية التركيز أمام التلفزيون، تشاهد، وتحكي لصديقات لها في نفس عمرها، عن تطور الأحداث في حياة مريم (نيلي كريم) المدمنة التي تحاول التعافي.

 

أقولها لك بصراحة، الأعمال الدرامية التي تنطلق من "قضية" ما لا تروقني.. لا أفضل فيلم موضوعه الإيدز أو السرطان أو التحرش أو الحفاظ على البيئة.. أعتقد أن هذه القضايا يمكن أن تكون مجرد حكاية في خلفية العمل، وليست الموضوع الأساسي للعمل الدرامي.. لكن مع تامر محسن ومريم ناعوم، القصة تختلف.

 

على يوتيوب بدأت مشاهدة الحلقات، وفي اليوم الأول، انهيت ست حلقات كاملة، وأكملت الدفعة الثانية في اليوم التالي مباشرة.. وفهمت، تدريجياً، سر الخلطة..

 

لا يوجد لغز!. حكاية تبدو عادية جداً. هادئة جداً، لا أحداث سريعة متلاحقة، ولا مشاهد سريعة لاهثة.. هدوء وتأني، وكل شيء يأخذ حقه على الشاشة دون زيادة أو نقصان.. وواضح جداً، أن الموضوع هو الإدمان والمخدرات!.. دون تجميل أو لف ودوران..

 

يأتي حوار مريم ناعوم ناعم جداً، يكشف عن المشاعر الحقيقية للشخصيات، دون لغة خطابية سمعناها مليون مرة، مع مساحات صمت طويلة، وتعبيرات بالوجه والعيون.. تحكي الكثير مما كان يمكن قوله في كليشيهات محفوظة..

 

الصورة جميلة وقوية وجذابة، رغم أن التصوير كله في أماكن حقيقية، لا مكان لاستديو واحد تقريباً.. مشاهد البيت في شقة حقيقية، ومشاهد السيارة في الشارع، الكاميرا تتحرك بنعومة وذكاء، وكأنها عين المشاهد الطبيعية جداً.. تامر محسن ولغته السينمائية..

 

وحش التمثيل، نيلي كريم، التي كانت أمامها مليون فرصة بحيث تبقى فتاة جميلة على الشاشة تطارد الأشرار وتستعرض أنوثتها وتخاطب المجتمع من فوق، تركت كل هذا، لتغوص في شخصية المدمنة التي تحاول التعافي، الزوجة التي كان يمكن أن تبقى سعيدة، لولا المخدرات التي تفسد حياتها..

 

هاني عادل، الذي يثبت أنه ممثل رغم أنف الجميع.. يسلم نفسه تماماً للمخرج وللنص، وقادر على التقدم خطوة للأمام في طريقه للخروج من الصورة النمطية للشاب اللطيف، إلى ممثل حقيقي قادر على أن يعيش داخل الدور.. لا أن يعيش الدور.

 

(3)

ربما، وأنت تشاهد الحلقات، ستجد نفسك تفكر في إرادتك.

 

فكرة إرادة الإنسان، وقدرته على الوقوف أمام رغباته المبررة وغير المبررة. الطيب منها والشرير، السلبي والإيجابي. هذا الشعور بالضعف، وخذلان الذات، هو ما تأخذه كمشاهد في جرعات يومية عبر حلقات "تحت السيطرة"..

 

لتشعر، أنك أنت ذاتك، مدمن ربما لأمور أخرى. ضعيف أمام شهواتك ورغباتك وجنونك.. ومع تقدم الحلقات، ربما، ستجد داخلك قدرة أكبر على السيطرة على ما سبق.

 

ربما مثلاً تبدو تجربتي ساذجة، سأحكي لك، أن الحلقات التي شاهدتها حتى الآن من مسلسل تحت السيطرة، ساعدتني كثيراً، على تجاوز محلات البيتزا التي تنتشر تحت مقر سكني الحالي، دون التوقف والدخول لشراء بيتزا ضخمة للسحور!.

 

شاهدت نفسي وضعفي وإدماني في "مريم" و"طارق" و"علي" وغيرهم من المدمنين، ورأيتني أكتشف في داخلي قدرة على السيطرة على أمور لا أرغب فيها حقاً!.

 

هذا، هو سحر القصة العادية جداً، التي ينسجها تامر محسن ومريم ناعوم.. بحيث تبقى التفاصيل كلها تحت سيطرتهم، دون خلق عشرات الخطوط الدرامية لزوم التعقيد والتركيب والابهار والاستعراض..

 

وهذا، هو التحدي الصعب، إحترام غير عادي للمشاهد، واللعب بعيداً عن محاولة أسره وإذلاله بلغز معقد بتفاصيل كثيرة، مجرد حكاية عادية، وللحكاية سحر، يدركه ويعرفه من يحترمها ويقدسها دون اللعب على محسنات وإضافات لا معنى لها..

 

وهذا ما أحبه في الدراما التليفزيونية!..

 

شاهدوا تحت السيطرة، وراقبوا قدراتكم الشخصية على السيطرة..

 

فاصل ونعود، مرة مقبلة، للحديث عن المعلم الكبير.. عمرو سمير عاطف.

 

الحلقة الأولى: مصر التي في المسلسل (١)

الحلقة الثانية: حق المشاهد

الحلقة الثالثة: العهد.. هل الكلام مباح؟!