تناقضات ن.ن الرائعة

تناقضات ن.ن الرائعة

نورا ناجي

نورا ناجي

08 أكتوبر 2016

(1)

الحياة المليئة بالتناقضات لابد وأن تصيبك بالتوتر والتوهان في النهاية، المشكلة هنا أن الحياة نفسها انقسمت إلى اثنين، حياة واقعية في العالم الكئيب المائل لونه إلى الاصفرار، في الحر والإرهاق والزحام الدائم، بين السلع الرديئة ورائحة مزيلات العرق والعطور المضروبة، التحرش والاستظراف والمشاكل العائلية وغسيل الصحون، وبين عالم آخر يبدو براقاً، تجلس لتتابعه من شاشة مضيئة، وأنت في غرفة مكيفة أو أمام المروحة، تجلس كما تحب بالبيجاما و"الشبشب"، لتتحدث عن شيء مختلف تماماً مثل كيف كانت رحلة الأمير ويليام إلى كندا، أو ما هو سر طلاق أنجلينا جولي أو عن أزمة الدولار الأخيرة، أو حتى نشر بعض الصور الرومانسية التي تحدث في عالم آخر، أو كحالتي تكتب عن عروض أزياء لعلامات فخمة في عواصم الموضة.
 

(2)

أجلس أمام اللاب توب أتناول ساندوتش الجبنة وكوب الشاي وأرتدي البيجاما، لأكتب عما فعله جورجيو أرماني في مجموعته الجديد للربيع، أكتب عن فساتين لن أرتديها أبداً لأن سعر الواحد يتجاوز راتبي في 20 سنة أو أكثر، ثم أنتهي من المقال المطلوب، أقول أعجبني ولم يعجبني بكل "تناكة"، لأغادر المنزل متوجهة إلى السوبر ماركت، أتابع أسعار الطماطم بقلق، وأشتري البيض والعيش والجبن لأدفع مبلغاً خرافياً يجعل عيناي تدمعان قليلاً.
 

كيف يمكن أن أحافظ على ثباتي النفسي في مثل هذه التناقضات التي أعيش فيها يومياً أنا وغيري، العالم اختلف تماما في أقل من 20 عاماً، أعبر إلى سن الثلاثين الذي اعتقدت دوماً أنني باجتيازها سوف أكون في مرحلة ما مستقرة في حياتي، زوجة مستقرة، أعمل بوظيفة مستقرة، أملك أطفالاً يذهبون إلى المدرسة، لا شيء يزعجني سوى أحداث الحلقة القادمة من المسلسل الذي أتابعه، هكذا تربيت وهكذا رأيت الكبار من حولي، وهكذا تمنيت أن أصبح مثلهم، لا يعانون من مشاكل كتابة الواجب، أو حفظ جدول الضرب أو حل مسائل الفيزيا المعقدة، ثم لا يعانون من صعوبة الحياة الجامعية وقسوتها ومرارتها وكل انكساراتها، لكن العالم الحقيقي لم يكن كذلك، ربما كذب عليا الكبار قديماً، أو أن الحياة بالفعل قد تغيرت في فترة قصيرة مذهلة.
 

(3)

طاقة سلبية مزعجة تطاردني على الفيسبوك بشكل يجعل من الحياة مستحيلة، هناك اتجاه عام لإشعار الجميع بأن الحياة أصبحت لا تُطاق، وأننا نعيش في عالم الخراب الكبير، إنها الديستوبيا التي تنبأ بها كتاب الخيال، لقد تجسدت أخيراً في مصر، كيف يمكن أن يعيش شخص وهو يعلم بأن عيشه لم يعد ذا جدوى بعد الآن، كيف يمكن ألا أقلق على مستقبلي ومستقبل طفلتي؟ كيف يمكن أن أنام؟
 

كمية الخبراء الذين يتحدثون في كل المجالات على الفيسبوك أصبحت غير منطقية، أذكر أن من أسبوع واحد كان الحديث كله يدور حول الأمهات اللاتي سيتم الكشف على أثدائهن مقابل منحهن اللبن المدعم، هذا الخيال المبالغ فيه الذي لم يحدث ولن يحدث كان أمراً واقعياً منذ أسبوعين فقط، لا أحد يتذكره الآن ولا أحد يتسائل هل هذا حدث فعلاً؟ هل كان قراراً حقيقياً أم أضغاث أحلام أدمن صفحة متحمس؟
 

ما الذي استفدناه نحن سوى الشعور بالغضب والتوتر والتساؤل "البلد رايحة على فين"؟ حتى بفرض أن الوضع بات سيئاً جداً في مصر، أقرأ الكثير من التنبؤات التي تبشرنا بخراب البلاد والبيوت والموت جوعاً مثل الشدة المستنصرية، ثم أقرأ عن الفتيات المخطوفات، ثم حوادث الطرق، نظرية المؤامرة تراودني بالتأكيد، هناك من يعمل جاهدا لدفعنا إلى الانتحار أو التوقف ببساطة عن العيش، أو أننا مثل أفلام الخيال العلمي، نفعل ذلك بأنفسنا دون إرادة لتنتهي الحياة على أيدينا دون أن نعلم.


(4)

كنت أتسائل دائماً كيف يتزوج الأشخاص في الحروب ويحبون وينجبون ويتمكنون من استكمال حياتهم؟ إنها التناقضات التي تكوّن جزءاً من شخصية البشر، نحن نخاف ونطمئن في ذات الوقت، نحب ونكره، نهوّل ونستهوّن، التناقض الذي يجعلنا نرى الصورة مظلمة من جميع النواحي، لكنه يمنحنا في ذات الوقت شعلة أمل باقية تضيء ولو فتحة صغيرة، فتحة تجعلنا قادرين على استكمال الحياة بدلاً من شنق أنفسنا فوراً بملاءة السرير، الحمد لله على هذا التناقض.