
راديو طمطم

نورا ناجي
20 أكتوبر 2016في الغربة، لا شيء يبقيني بعيدة عن السقوط في فم الاكتئاب الشره، طفلتي التي لا تتجاوز الأشهر الثلاث تبكي طيلة الليل والنهار، لا أنام تقريباً، أجلس في غرفة مظلمة وحدي، أربت وأهنن وأغني وأرضع، العالم يضيق،والغربة تكتم على القلب فأشعر أنني باردة، بلا نبض،وبلا روح.
أبحث عمّا يمكن أن يساعدني على تجاوز الأيام الثقيلة المتعبة، كتاب، مسلسل طويل من عدة فصول، أغنية، الموسيقى كانت دائماً جزءاً لا يتجزأ من الأدوية السحرية التي تمنحنيالسعادة، ولو لبضع دقائق حتى.
أعد قائمة بالأغاني التي أحبها، أركز جداً لدرجة أنني لا ألاحظ بأن الطفلة قد نامت، وأنني أستطيع إغماض عيناي قليلاً، لكن فكرة عمل "بلاي ليست" طويلة وضخمة ومستمرة سيطرت على تفكيري، فأحمّل الأغاني من على شبكى الإنترنت، أصنفها، أجمعها وأضيفها، أرتبها طبقاً للأفضلية، طبقاً لحالتي المزاجية، طبقاً لما يمكن أن يعينني على تحمل الأيام القادمة.
تعجبني الفكرة، فأفكر في مشاركتها مع الأصدقاء على الفيسبوك، أتذكر أن هناك طرق لبث الموسيقى عبر راديو إنترنت بسيط يمكن صنعه، لكني لا أعرف كيف أفعلها، ولا من أين أبدأ.
تلمع عيناي، الفكرة تسيطر عليّ أكثر، أبحث على جوجل عن الطريقة الممكنة، تظهر لي مئات المنتديات السخيفة التيتدعي امتلاكها الحل، أقضي النهار في قراءة هذه المواضيع، والضغط على الروابط المزيفة، وتحميل عشرات البرامج التي لا داع لها، كنت اقتربت من اليأس، هذه أصلاً فكرة سخيفة لا تستحق كل هذا الجهد المبذول، لماذا لا أنام أو أشاهد حلقة من المسلسل أو أحضّر رضعات الطفلة؟
أتوقف لحظة،ثم أستعيد تصميمي التام، أبحث أكثر، أجرب عشرات الطرق والصيّغ، يسخر مني أحدهم مؤكداً أننيلن أنجح في ما أفعله، فيزداد عزمي على الوصول، أنجح فعلاً، أصنع محطة راديو انترنت خاصة بي،أطلق عليها اسم "راديوطمطم" نسبة إلى طفلتي التي تحملتني يوماً كاملاً وانا أنظر كالبلهاء في شاشة اللاب توب، أحاول إيصال البلاي ليست الخاصة بي إلى العالم، الذي غالباً لن يهتم، ولن يسمع.
موقف غريب وبسيط قد يمر مرور الكرام على أيّ شخص آخر، كان سبباً في تغيير شخصيتي تماماً، قبله كنت شخص آخر، يستسلم بسهولة أمام أي ضغط، ينسحب من المواجهات، يتخلى عن حقه عند أول خلاف، يتعثر فيركض مبتعداً باكياً عائداً من حيث آتي، بعده، أنا لا أمّل من المعافرة، أبذل كل ما أملك في سبيل تحقيق غايتي، أعاند الجميع، وأزداد تصميماً بالفشل، أثق بأن لكل طريق مسدود مخرج، كل موقف يمكن التعامل معه، كل مشكلة يمكن حلها، لا يوجد شيء منتهي أو مغلق 100%، أملك هذا الإيمان الكاسح بأنني سأنجح حتماً، سأصل إلى ما أحلم به حتماً، حتى لو كان بتفاهة صنع محطة راديو لم يسمعها أحد، أو بضخامة حضوري ذات يوم لحفل الأوسكار.
أذكر جلستي باسترخاء وأنا أحتضن طفلتي، أسمع أغنية هادئة تملأ الغرفة من حولي في تلك المدينة البعيدة فأشعر بأنني لست غريبة إلى هذه الدرجة، أرى على البرنامج أن هناك ثلاثة أشخاص يسمعونها معي في نفس الوقت، تجمعنا هذه الأغنية فأتخيل شكلهم، شكل بيتهم منزلهم وصورة سطح المكتب على اللاب توب أمامهم، أفكر أنهم حتماً أشخاص يائسون مثلي لدرجة قبولهم فتح محطة راديو إنترنت اسمها "طمطم"، لسماع أغاني تختارها أم جديدة منهكة منكوشة الشعر متورمة العينين لم تنم منذ أسابيع، لكنهم أيضاً يملكون نفس رغبتها في المواصلة، يملكون نفس اندفاعها نحو أي مسببات ضئيلة للبهجة، هؤلاء إخواتي في المعافرة،أنا متأكدة أنهما الآن أشخاص آخرون تماماً مثلي، أكثر قوة، أكثر سعادة، وأكثر تأثيراً في العالم.