
ما فعله بليغ في طلال.. وما فعله طلال فينا

نورا ناجي
25 فبراير 2017مقدمة شخصية
أنت تعرف أن "الفنانين مجانين"، بالتأكيد تعرف ذلك فهي جملة كليشيهية سخيفة بلا معنى.. الفنون جنون، الفنانين كما يعتقد المعظم إما مجانين ولاسعين تماماً، أو منحطين وساقطين، صور نمطية مكررة لا يمكن محوها بسهولة، لا يوجد فنان عاقل سوى عبدالوهاب مثلاً، وهذا أيضاً يحتمل الشك لأنه كان يعاني من الوسواس القهري، ويقولون أنه كان بصباص وعينه زايغة، وهذا يا عزيزي يجعله منضماً للفئتين بجدارة.
الشعراء يأتون بشعرهم من وادي عبقر حيث يمرح الجان، أما الموسيقيين فهم ممسوسون في كل مكان وليس وادي عبقر فقط، الموسيقي يدخل إلى الحمام والألحان تدوي في ذهنه، يركب القطار والألحان في أذنيه، يمشي في الشارع، يتناول الفول والطعمية، يتحدث مع الأصدقاء، يحل الكلمات المتقاطعة..الموسيقى لا تتوقف، هذا دليل جازم أنه مجنون أو ممسوس.
الشعراء يأتون بشعرهم من وادي عبقر حيث يمرح الجان، أما الموسيقيين فهم ممسوسون في كل مكان وليس وادي عبقر فقط.
أسير مع صديق يعزف على "الكلارينيت" أيام الجامعة، أدرس الفنون الجميلة ويدرس هو في تربية موسيقية، الأخ لا يتوقف عن إصدار صوت أقرب للـ "زوم"، يزوم بفمه وكأنه ينفخ في الكلارينيت، أنظر إليه بطرف عيني وأنامرعوبة، لكني أرى نظرته الشاردة فأعرف أنه يفكر في نوتة موسيقية ما، تتراقص أمام عينيه فيزوم بها وكأن الألة في فمه، نركب الأتوبيس المزدحم، الممتليء إلى أبوابه المفتوحة بالعرق والحر والصخب، وهو لا يتوقف عن الزوم..أحسده، في عالم آخر هو بالتأكيد، عالم كله موسيقى وآلات وكمنجات وحسناوات يرقصن، بينما أفكر أنا في المنظور والمسقط الأفقي وأكاد أطيّر رؤوس من حولي بالمسطرة حرف "T" قبل انتشار الأتوكاد وبرامج الرسم الهندسي.
أفكر أنني لو كان لي أن أختار قوة خارقة، لاخترت أن أملك صوتاً جميلاً، الصوت الجميل يهز الأقوياء، يجعل الملوك يركعون، يجلب لك كل المزايا في العالم، يجلب لك الحب والصداقات والاحتفاء والتكريم، الصوت الجميل يجعل بليغ حمدي بذات نفسه تائهاً في العيون السود، والعنق المرمري الأبيض الطويل، يجعله هائماً في ملكوت آخر، يجعله وهو الملحن المحبوب الذي يملك كل شيء، ويعيش حياته بالطول والعرض، يتورط في علاقة غير متكافئة وجدانياً، يحترق هو، والطرف الآخر يقول النار بقت دخان ورماد.
بين ما حدث وبين ما كان يمكن أن يكون قد حدث
دعنا من كل هذه المقدمة الطويلة التي كانت مجرد محاكاة لما فعله طلال فيصل بنا في روايته الأخيرة "بليغ"، والتي تأتي بموسيقى غير مسموعة تنفذ إلى القلب فوراً، تجعلك غير قادر سوى على الاستغراق في أفكارك، واسترجاع الذكريات والألحان والكلمات والأغاني، بليغ حمدي كما لم نعرفه، في الواقع، هو تحديداً بليغ الذي لا نعرفه.
يعتمد الكاتب المخضرم أسلوباً جديداً في الأدب العربي-وإن كان معروفاً عالمياً- وهو أدب السيرة بطريقة مزج الخيال بالواقع، إنها رواية بكل تأكيد، لكنها رواية أبطالها أومعظم أبطالها أشخاص حقيقيون، الجميل في هذا النوع من الأدب، إنه مثالي لتعريف الآخرين بأشخاص مروا على عالمنا مثل الطيف، ربما لم يأخذوا كامل حقهم في الواقع، إنهم محفورون في وجداننا نعم، لكن بأيّ شكل؟ بأي ادعاءات؟ ظالمين أم مظلومين؟ ماذا يتبقى من جيب سرور سوى ديوان "..الأميات"؟ وماذا يتبق من بليغ حمدي سوى حادث قاسي مثير، وقصة حب غير مكتملة، وألحان ربما لا يعرف الجميع أنها له؟
هذا الابتعاد عن الضوء يكفل للكاتب التلاعب بما شاء، فإن كتب:"هذه وثيقة بخط يد نجيب سرور"، من يمكن أن يكذبه؟ إن كتب خطاب طويل من بليغ حمدي إلى صديقة محمود عوض، فربما يكون هذا حقيقياً، وربما يكون متخيلاً، أو هو مزيج من الإثنين معاً..لا يهم أن نعرف، بل في الحقيقة، يجب أن لا نعرف.
يغطس طلال فيصل في تقمص شخصياته، ثم يقب، فلا تعرف الفارق بين الكاتب طلال فيصل، والبطل طلال فيصل، والشخصية مركز الأحداث بليغ حمدي، الثلاثة يشتركون معاً في شيء واحد، هذه الغلالة الرقيقة من الشجن وعدم التكيّف، الثلاثة شرنقوا أنفسهم داخل أنفسهم على الرغم من أن الظاهر يبدو غير ذلك، وإذا تركنا الكاتب في حاله، فهو وعلى الرغم من تحكمه في كل شيء لا يعنينا كثيراً أن نعرف فيما كان يستحضر أو يفكر وقت الكتابة من أفكار شخصية، لكن يعنينا أن ندقق مع بليغ، ومع طلال البطل الشارد، ومع سليمان العطار، ومع النساء القاسيات من وجه نظرهم، الطبيعيات للغاية من وجة نظر العالم، وردة، مارييل، إيما.
الدراويش والكمال المزيف
يقع دراويش الفنانين والأدباء في هذا الفخ دوماً، نقدس من نحبهم حد الكمال، لذا دائماً ما تأتي فضائح الفنانين الأكثر مشاهدة على المواقع الفنية، تسعى المواقع وصحفيوها المساكين الذين يسعون وراء مثل هذه الأخبار من أجل لقمة العيش، القاريء يا أخي يحب هذاالنوع من الأخبار،لأنه وعلى الرغم من عشقه المتيّم بكاتبه/فنانه/ شاعره/مطربه/أي شيء آخر المفضل، إلا أنه يحب في ذات الوقت جلده بالسياط عندما يزل، عندما يكشف عن جانبه الطبيعي كبشر وليس ملاك. نحن لا نتوازن نفسياً عندما نعرف أن بليغ حمدي الملحن الرقيق الذي لحن شوف بقينا فين يا قلبي وهي راحت فين، أوالذي يجعل قلوبنا ترقص ووردة تقول وبحبك، أيوه بحبك، قد العيون السود بحبك..هو في الحقيقة إنسان عادي، إنسان يأكل ويشرب ويتزوج ويخون ويكذب ويذهب إلى الحمام، ربما يشرب الحشيش والخمر كذلك، ربما يدخل في علاقات غير شرعية، مثل أي شخص طبيعي من حولنا يفعل نفس الأشياء بالضبط، لكنه يتناول الجريدة في الصباح بعد سهرة صاخبة، يقرأ الخبر ويندهش، كيف يمكن أن يفعل بليغ هذا؟ كيف يمكن أن يفعل فلان وفلانة وعلان ممن لعنوا بالأضواء هذا أوذاك؟ غريبة جداً!
الفنانون يملكون قوة خارقة رهيبة، قوة يتمناها الجميع لكنها ككل قوة خارقة أخرى، من سوبر مان إلى سبايدر مان وحتى هاري بوتر، ملعونون بالوحدة، بالعزلة، بالشرنقة التي ينسجها العالم من حولهم، فإما تجن، أو تختفي تماماً عن الأنظار.
ماذا إذاً فعل بك الحب يا طلال أنت وبليغ؟ أحب هذا التماشي مع الشخصيتين، الكاتب يريد أن يجعلك تندمج في قصة تعرف أنها خيالية ليقنعك بقصة أخرى على أنها أحداث حقيقية، إنه يكسر الإيهام ويجعلك قادراً على التعاطف معه رغم زلاته، بالتأكيد ينحاز الكاتب إلى بليغ ويبرر له تمرده وندالته وتخليه عن حبه من أجل مصالحه الشخصية، يقسو على وردة ويتهمها بالتخلي، بالتوقف عن الحب، بإجهاض أطفالهما، ربما حتى يشكك في حبها من البداية، ربما كانت من الأصل لاتحبه هو، تعجبها ألحانه، كما يقول درويش بتصرف، ربما يكون هذا حقيقياً وربما لا..لكنه على الأقل استعراض لوجهة نظر أخرى، بعد كل تلك الاعوام التي استمعنا فيها لوردة وهي تشكو مما حدث لها مع بليغ، أو تقص على الصحافيين حبها الكبير وندالته الكبيرة.
مثلها مثل مارييل القاسية التي تطلب البوليس لطلال فيصل العاشق المتيّم وهو يدق بيديه على باب منزلها في باريس، يتمنى منها ولو نظرة، مثلها مثل إيما التي كسرت قلب سليمان وتركته وحيداً في منزل متواضع يدرس مقامات بليغ، ويستعيد ذكرياته بموسيقاه التي لا تتوقف.
الملحن العظيم الذي ارتبط بوجداننا الجمعي حتماً، ونحن نسمع سوّاح في كاسيت االتاكسي الذي يقلّنا إلى المدرسة صغاراً،أو الهوا هوايا التي يصر الأب على تشغيلها ونحن نتناول الإفطار يوم الجمعة، وصولاً إلى المزيج الرهيب للعندليب على ساوند كلاود اليوم، تتم إعادته للحياة من جديد، نتأمل بدقة في ملامح وجهه الأسمر، وفي شيطان الفن الذي "ينط" من عينيه، بالتأكيد كان بليغ يزوم بالألحان وهو يسير إلى جوار أصدقائه، ربما كان سبوبجي وصنايعي أيضاً، لكنه إن لم يفعل لخسرنا نحن الكثير.
طلال فيصل منحاز لهؤلاء الأنبياء الشفافون المرهفون الذين يظهرون ويختفون فجأة، بالذات هؤلاء الذين لا تهتم بهم الأضواء إلا في الفضايح، نجيب سرور ثم بليغ حمدي، سيد قطب مستقبلاً وربما محمد فوزي أيضاً، إنه يصر ويعيد ويزيد في منطقة بشرية الفنان، ورغم ذلك يعيد ويزيد في أنه مختلف عن الآخرين.
يعتمد الكاتب المخضرم أسلوباً جديداً في الأدب العربي- وإن كان معروفاً عالمياً - وهو أدب السيرة بطريقة مزج الخيال بالواقع.
الثورة والنكسة والسياسة والفن والسبوبة
نعيد الأحداث والتاريخ بلا كلل، اليوم وبعد الفترة الحماسية في كتابة الروايات التي تدور الثورة في خلفية أحداثها كتطور وتغيّر ضخم ومروّع، تُكتب الأغاني وتُذرف الدموع، يسرع الفنانون إلى استديوهاتهم يسجلون أغاني مصطنعة عن الوطن والشهداء والميدان ويناير، تباع أعلام مصر في كل مكان، يلصقها الطلبة على الكراريس، وتتدلى من شرفات العمائر، ترتديها الفتيات كأوشحة ويزيّن بها الشباب ياقات قمصانهم، ثم يختفي كل ذلك، تختفي الأعلام فلا تظهر سوى في بطولة كأس الأمم، تختفي الأغاني الوطنية والأفلام المستقلة والحماس وصورالشهداء، تعود "القوائم السوداء" للظهور بكل بساطة، فتنتهج الأعمال الإبداعية الوضع المعاكس.
مرحلة الفتور واللا اهتمام، لقد عاصرنا حدثاً ضخماً ننظر له اليوم وكأنه لم يكن، فلنترك هؤلاء المحتدشون في الميدان، الضائعون وسط قنابل الغاز في حالهم إذن، ونذهب مع الفرنسية الساحرة مارييل لنمارس الحب لأول مرة، هذا ما سيغيّر الحياة ويعيد تشكيلها حتماً، نهرب من تولي الحكم الديني المقاليد، ثم نتجاهل عودة الحكم العسكري تماماً، نفقد الإيقاع مثل طلال الهائم في شوارع باريس يبحث عن شيء ما لا يعرفه، تكسره التجربة لكنه حتماً لا يموت، مثل أيّ تجربة أخرى يخوضها الهائمون حول العالم، يكسر الحب بليغ لكنه لا يموت، تكسره فتاة لا يعرفها توقعه في ورطة قبل أن تموت، فيكسره الوطن في لحظتين بعدها، لاتشفع له أغانيه الوطنية سواء كانت سبوبة متعوب عليها أو خارجة من قلبه، يكسره الأصدقاء والزمن والموسيقى في عقله، يسافر ليبحث عن الإيقاع المفقود، مثلما يسافر طلال بحثاً عن اتزانه مع مارييل، لايعثر الإثنان على ما يتوقعانه، لكنهما حتماً يعثران على شيء آخر، يتصالحان مع حقيقتهما كفنانين، ربما يتم استغلالهما، أو ربما لا يمكن تحملهما، لكن هذه مشكلة الآخرين وليست مشكلتهما.