
تعالوا نؤدي «تمثيلية الانتخابات»

محمد مصطفى موسى
19 يناير 2018
لا سقف للأمل، الحالمون يخربشون جدار المستحيل، لا يستنكفون عن طرق الأبواب الفولاذية، وإن تكسّرت عظام راحاتهم، هم مسكونون بغريزة البحث عن كل ما هو جميل، يطوفون كالفراشات حول النور، شغفًا وهيامًا في حال «نستولوجيا».. وإن احترقوا.
في مراهقة مبكرة، قرأت نجيب سرور، وقعت على «لزوم ما لا يلزم»، ثمة أبيات نُقشت على جدران ذاكرتي «الطريّة»: المرفأُ المنشودُ لاحْ/ أفرغ شراعَك يا غريبُ من الرياحْ/ لملمهُ.. كم ودَّ الشراعُ لو استراحْ/ لو استراحْ/ ودّع طيورَ البحرِ: صعبٌ يا رفاقْ/ صعبٌ على القلبِ الفراقْ/ ودّع طيورَ البحرِ/ كم راحت إلى الأفقِ البعيدْ/ تشتّمُ ريحَ اليابسةْ/ لتعودَ لاهثةً ترفرفُ يائسةْ/ لا شيءَ في الأفقِ يا ملاحُ غير الأفقِ/ كل الكونِ بحرْ/ وتنامُ مجهدةً على الصاري طيورُ البحرْ/ إن هجم المساءْ/ وتظلُ أنتَ بلا رجاءْ/ بلا رجاءْ/ ومتى فقدتَ برحلةِ الهولِ الرجاءْ/ لا أنت لم تيأسْ/ لو لم تكن أقوى من اليأسِ/ تُرى.. كيف وصلت؟
ما نقرأ في الصغر، يغدو وشمًا على خلايا وجداننا، للأبد، وأنا بفيض كريم من نجيب سرور، ربما، أتورط دائمًا في اقتراف الأمل، سقطت من فوق الحصان، مرات، ولعنت الأرض الوعرة، مرات، لكني ضمدت جراحي ووقفت.
ليلة الخامس والعشرين من يناير، كتبت على صفحتي بموقع التواصل «فيسبوك»: «سقط مبارك»، كنت في غربة سميتُها مبكرًا «منفى»، أي موضع في الأرض غير مصر منفى، قيل لي: أنت واهم، قلت: بل حالم، قيل لي: الوقت مبكر، قلت: تأخرنا ثلاثين سنة.
علم النفس يحدد أهمية أحلام اليقظة، في أنها تنفس عن الرغبات المكبوتة، فالخيال يرحم الأرواح المعذبة من واقعها القاسي، فيعيد إليها التوازن، شريطة أن لا تغرق في أعماق تلك الأحلام، فتصاب بالشرود أو الإدمان المرضي الذي يفصلها كليًا عن الحقائق.
ذات مرة كتب أديب إلى العالم الأبرز «فرويد»، يشكو نضوب قريحته، فنصحه: «احلم»، ما دمت لا تحلم، فلن تبدع، إن عقلك الواعي يضع قيودًا على عقلك الباطن، حرر طاقاتك بالاستغراق في الأحلام.
اليوم.. بعد سبع سنين، من ثورة مغدورة، ما زلت أحلم، صحيح أن هامش الحلم يبدو ضيقًا، الكثيرون تنازلوا عن هتاف الحرية، أصبحت أيام الميدان، تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، القامعون انتزعوا كسرة الخبز من الأفواه، صار لسان حال الناس: اعطونا العيش لا أكثر، لكن حتى العيش لم يعد متاحًا، وفي الخلفية ثمة صوت يلاحق الجميع برخامته: «هتاكلوا مصر»، أو «أنتم فقرا قوي»، ولا مجال للاعتراض، قانون التظاهر من خلفكم، والاختفاء القسري من أمامكم، أينما تولوا وجوهكم، فثمة وجه القمع والقهر والبطش.
في مناخ كهذا، قد يكون الحلم حماقة، والتفاؤل مبالغة ليست في محلها، هذا احتمال وارد، رأي يحتمل الصواب والخطأ.
لكن الثابت أن اليأس هزيمة، اليأس استسلام مجاني من دون قيد أو شرط، وهذا هو التحدي الأكبر، القامعون يمعنون في إجراءات الترهيب، بغية «تيئيس الثورة» الإعدامات بالجملة، إطلاق الرصاص على المتظاهرين، حرمان المعتقلين من حقوقهم، بما فيها حق العلاج، جميعها ممارسات تريد وأد الأمل، تريد استصدار شهادة وفاة للحلم، الذي انبجس صبيحة الخامس والعشرين من يناير: ها قد عدنا، فعودوا أنتم إلى مقاعدكم.
صناعة اليأس هي أبرز منتجات دولة الثلاثين من يونيو، والثابت أن مقاطعة السياسة بالجملة، هي الهدف المنشود لها.
متى عادت أيام المخلوع، حيث كان الناس كالخشب المسندة، لا حراك فيهم، متى اطمأن القامعون إلى استقرار كراسيهم.
قبل ثلاث سنوات، في مثل هذه الأيام، فجرًا ذات ليلة شديدة الرياح باردة، داهمتني الذبحة القلبية، وحيدًا ارتميت على سريري، وحيدًا اعتصرني الألم، كأفعى إفريقية تلتف حول أرنب صغير، حتى تطحن عظامه، فتجعله لينًا، ثم تبلعه على مرة واحدة.
وقتها، أيقنت أن العوامل الوراثية نفذت تهديدًا، تجاهلت إشاراته باستمرار: «أنا أموت».. تضرعت: «يا رب حضن»، تمنيت يدًا تربت على ظهري، حتى أجريت القسطرة، وفي غرفتي بالمستشفى، تمنيت أن يزورني رفاق العمر، أصدقاء البدايات، لكن أيًا منهم لم يأتِ، وفجأة تضوّع عطرها مباغتًا «شانيل»، شهقت عميقًا، حتى أملأ صدري شذىً، ولما رحلت، وجدت إزاءي باقة ورد وبطاقة: «سلامة قلب الشاعر»، ذبل الورد، ومضت ذات اليد الطيبة، إلى حيث كانت، اختفت كجنية البحر، وبقيت لدي البطاقة، وذاكرة العطر.
في ذروة اليأس انبثق الفرج، رحمة الله تأتي حينما نكون في أمس الحاجة إليها، كذلك تفجرت عيون الماء، من تحت قدمي السيدة هاجر، كان الظمأ استبد بنبي الله إسماعيل، وليدًا طال انتظاره: اللهم أغثني وسعيًا بين الصفا والمروة.
عبقرية الميدان اختزلت المعضلة مبكرًا: «اليأس خيانة»، يجب أن نكون أقوى من اليأس.
في كل محنة ثمة منحة، اليوم مع غلق الأفق بالمتاريس والمدرعات، مع حملات التطبيل المبسترة المفتعلة، مع الطنطنة بأن لا جدوى من تمثيلية الانتخابات، مع فوهات المسدسات الحربية المصوبة إلى الصدور، سأعتصم بالحلم حتى النهاية.
صوتي لخالد علي، ليس مرشحي المثالي، بالطبع، لدي عليه تحفظات، لا يروق لي خطاب حملته، إلى حد ما، أضع علامات استفهام على مبررات خوضه الانتخابات المقبلة، بعد سخريته من السابقة، وكذلك هجوم عديد من المحسوبين عليه، على حمدين صباحي وقتها، رافعين لواء المقاطعة، حتى لا تتشرعن «التمثيلية»، التي ارتأيت وقتها أن لا أشارك فيها، لكن ما فات فات، فقد كان موقفي من موقفه، لماذا أغيّر أفكاري ولا أقبل من الآخرين الشيء ذاته؟ سأؤيده حالمًا بمعجزة، ألم تكن الخامس والعشرين من يناير «أم المعجزات»؟
إذا أرادوها تمثيلية، إذن سأؤدي دوري، لكنه ليس الدور الذي اختاره المخرج، سأمثل نفسي، ومبادئي، وقيمي، وأفكاري، سأخرج عن النص، سأختار بإرادتي الحرة، لن أهرب من أرض المعركة، ولن أكون كمن قالوا لمن آمنوا: اذهبوا وحدكم، إنَّا هنا قاعدون.
سأحارب كل قبيح.. بما بقي في جعبتي من أحلام، سأرمي سهامي، قد تطيش، فحسبي أن أقاوم، بما أستطيع.